توصل العراقيون كما يبدو، الى قناعة، بأن الأحزاب المتربعة على مواقع القرار لم تترك لهم فرصة التقاط أنفاسهم، فالفساد وانتشار السلاح المنفلت وحركة المليشيات خلقت ظروفا غير مواتية لالتقاط الانفاس، سيما وأن ما تمارسه من سُبل تؤدي إلى تدهور حياتهم المعاشية والاجتماعية، نتيجة تطبيق " الاحزاب الحاكمة" لنهج المحاصصة الطائفية والأثنية، الذي وفر ظروف تقاسم ثروات البلد ومراكز المسؤولية السياسية فيما بينها، فأدخلوا البلد والشعب لعهد يشبه ما سبقه، من هيمنة سلطة الحزب الواحد. ولكون المحتل فتح أبوابا لتمكين الطوائف وأحزابها الإسلامية "كل حزب حسب انتمائه الطائفي"، وأبعد الأحزاب الوطنية التقدمية عن خوض واجبها الوطني لتنمية العراق، وأن يكون مسار الحكومة متماهيا مع فكر وتسلكات الكتل والأحزاب الطائفية وميليشياتها المسلحة، فأدى ذلك إلى كشف ذاتية وفساد الأحزاب الطائفية، خلال 18 عاما من تحكمها بالعملية السياسية، تحت سمع وصمت المحتلين، وبشكل يتماهى مع اجنداتهم، واجندات ودول الجوار.

 لقد كان العراقيون يأملون، إقامة حكومات بعد 2003، تعامل العراقيين على أنهم مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات، ولا يضعون اعتبارا لـ "دول الجوار ولا للولاءات الخارجية"، ويضعوا الولاء الوطني فوق كل اعتبار. تلتزم بصيانة حقوق الانسان والديمقراطية وتطبق العدالة الاجتماعية، وتدعو لبناء مجتمع مدني يتخذ من العدالة نهجا أوليا في تشريعاته، أذ ان ذلك وحده يصون العراق ويُبعد حكوماته عن مواصلة النهج المحاصصاتي المقيت، ويجعل من العراقيين متحدين بقوة، ضد ما يُمهد له من خيار مر "خصوصا وقد جاء صاحب مشروع تقسيم العراق بايدن ليدير السياسة الأمريكية في العالم "فيقسم العراق طائفيا وإثنيا".كون هذا ما تنتظر تحقيقه الأحزاب الطائفية وميليشياتها المسلحة لما أتيح لها من إمكانيات مادية و قتالية تساعد على ذلك على الرغم من تناقض مشاريعها.  

  ففي منطقة الشرق الأوسط والدول التي يمثلون فيها أغلبية، تعتقد الاحزاب الحاكمة، أن بناء دولة المجتمع المدني الديمقراطي في المنطقة والعلمانية، سيكونان حفار قبر لمفهوم الفكر الطائفي ولميليشياته التي تعتبر نفسها فوق القانون: لذا تعمل على ربط أفكارها الطائفية بسياسة الدولة، معتقدة بان دين طائفتها بالضرورة إذا أراد السطوة والانتشار أن يكون مرتبطا بسياسة الدولة،

  وحسب معتقدهم الذي دحضته الوقائع التي على أساسها بنوا حيثيات أفكارهم أن المال والسلاح المنفلت الذي امتلكوه، بإمكانه أن يحقق غرض الإتيان بعناصر ثابتة التقيد بتعاليم النهج الطائفي عند الانتخابات القادمة.

ومن وجهة نظرهم غير الواقعية أيضا بأن فكرهم الطائفي يشكل نهج حياة اجتماعية واقتصادية وأخلاقية للشعب، لذا يتم تهميش وإبعاد المكونات العرقية ذات الدين واللغة والثقافة والاحزاب الوطنية عن مسؤولية بناء الوطن والحكم، فهؤلاء هم جزء من كل لا يمكن تجزئته. لذا فهم يُطالبونها بالاندماج وإياهم. أما في البلدان التي يمثلون فيها أقلية فتراهم يستنجدون بالمجتمع المدني والعلمانية لكي تحميهم. وهذا يعني بكل "بساطة أن الإسلاميين يريدون العلمانية عندما يحتاجون إليها لحماية أنفسهم ويرفضونها، عندما تكون مطلبا لحماية غيرهم".

هناك أمثلة واقعية في العالم العربي، فعندما أزيح عن الحكم في تونس بن علي بثورة شعبية. وصلت الى سدة الحكم القوى الإسلامية متمثلة بحركة النهضة، التي اغلب قادتها عاشوا في الخارج، فمهدوا لها سبل السيطرة على ممتلكات الدولة والشعب، وفرض الخطاب الديني الذي يسعون لتطبيقه في مسيرة ثورة الشعب التونسي، فحولوا الجوامع وبعض مركز الدولة لترويج وتسيد الفكر الاسلامي ونبذ الفكر العلماني بل تكفيره وتوديع العلمانية التي صاغها مؤسس تونس الحبيب بورقيبة كنظام يجب مواصلته، 

ومن الجدير بالذكر أن أغلب قيادات الإسلاميين في العراق وتونس وحتى إيران   كانوا يعيشون في الغرب ضمن أنظمة علمانية وفرت لهم الحماية والمساواة وضمنت لهم حرية ممارسة شعائرهم الدينية، إلا أنهم بمجرد وصولهم إلى السلطة أصبحت المدنية والعلمانية خطرا على ما يسوقوه لشعوبهم، يجب عليهم مقاومتهما بقوة السلاح. بينما سعى الأخوان المسلمون في مصر، عقب الإطاحة بالرئيس المصري "حسني مبارك" لفرض مفاهيمهم، وشريعتهم على المكونات العرقية التي يتشكل منها الشعب المصري، فمست تفسيراتهم الدينية حتى الحريات العامة والخاصة، وعلى منوالهم يسعى الإسلاميون في تركيا بقيادة اردوغان للسيطرة على بقية المكونات العرقية، ونسف كل ما قام به كمال أتاتورك من تثبيت أسس العلمانية في تركيا، لنشر فكر أخواني فيها وفي المنطقة بمساعدة بعض الدول العربية والإسلامية.

عرض مقالات: