حفلت أحداث الموصل وبالذات مؤامرة العقيد عبد الوهاب الشواف بالكثير من الوقائع غير المحسومة بل المغيبة عمدا، وفي مقدمتها التلفيق والكذب والتدليس الذي شاركت في تدبيجه وإعداده والترويج له قوى الظلام الكارهة لثورة الرابع عشر من تموز وقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم والقوى الوطنية المدافعة عن الجمهورية وقتذاك. وبمرور الوقت فان التاريخ لا يعاف تلك الأكاذيب لتكون مثلما أراد لها أعداء الحقيقة والضمير الحي، لتمرر ويتقبلها الناس على علاتها. فنجد الحق والتاريخ ذاته ولو بعد حين، يعيدان ويمرران مجساتهما عليها ليكشفا عوراتها وخستها ونفاقها ويعري وقائعها وشخوصها.

فبعد أكثر من 62 عاماً يتم الآن كشف إحدى حقائق تلك الوقائع أثناء أحداث مؤامرة الشواف وتظهر حادثة الفتاة الموصلية حفصة العمري، التي قتلت على يد الجنود المعارضين لمؤامرة العقيد عبد الوهاب الشواف، وتظهر الحقيقة التي دائما ما أكدنا وأشرنا أليها حتى في مقابلتنا مع الرئيس أحمد حسن البكر عام (1974)، بأن تلك الفتاة لم يجر سحلها في شوارع الموصل وتعليقها على أعمدة الكهرباء مثلما لفق في الإعلام، بل تم دفنها في مقبرة من قبل شخص معروف في المدينة واسمه عبد الحق الكحلة. وكانت القوى المعادية لثورة تموز قد نظمت حملات إعلامية في الإذاعة والتلفزيون ووسائل الأخرى، أكدت فيها كذباً وتصعيدا وإثارة للأحقاد والكراهية بأن حفصة العمري قتلت بأيدي المقاومة الشعبية وتم سحلها في شوارع المدينة وتعليقها على عامود للكهرباء. وقد قاد المذيع والمهرج المصري احمد سعيد في إذاعة صوت العرب من القاهرة حملة شعواء ضد حكومة ثورة الرابع عشر من تموز والمقاومة الشعبية وقادتها في الموصل مؤكداً "رواية!" قتل حفصة العمري وسحلها وتعليقها.. ورغم النفي المتكرر من جانب القوى الوطنية والمقاومة الشعبية للأكاذيب والتلفيقات، فأن خصومهم تمادوا كذلك وتم نشر صور تبين رجال معلقين على أعمدة النور وسط مدينة الموصل. 

 ورغم أننا قمنا بنشاطات كثيرة من أجل تكذيب وتفنيد هذا المزاعم والتلفيقات إلا أن القوى المعادية لثورة 14 تموز واصلت وتواصل الإصرار على تمرير الكذبة للتأكيد على صحة افتراءاتها. ولكوني أحد قادة المقاومة لمؤامرة الشواف، أورد وأعيد هنا ما كنت قد أكدت عليه في أحاديثي وتصريحاتي الصحفية وفي كتابي الصادر في بغداد عام 2018 بعنوان "محطات من حياتي". وأسجل هنا مرة أخرى الوقائع الحقيقية لما حدث. ففي يوم سحق المؤامرة اتصل بقيادتنا شخص من مديرية شرطة الموصل، وتحدث معه عبد الرحمن القصاب، عندها أخبرني القصاب بضرورة الإسراع إلى المنطقة القريبة من سجن الموصل وأهمية منع أية محاولات للتنكيل بجثث المتآمرين. وعند وصولي إلى منطقة الحادث شاهدت جثة حفصة العمري مرمية أمام بيتها.. وقد قال لي بعض المقاومين أنهم عارضوا أخذ الجثة من قبل بعض الرجال. عندها طلبت منهم نقل الجثة إلى المستشفى، وبالفعل تم وضعها في إحدى السيارات وتم نقلتها إلى المستشفى. كما جاءت سيارات إسعاف ونقلت جثث متآمرين آخرين من بينها جثة والد حفصة، علي العمري.

 وحقيقة ما حصل وجرى أن ضباطاً وجنوداً من الأمن الموالين للمتآمر العقيد الشواف. وبعد أن تأكدوا من فشل المؤامرة، هربوا من معسكر الغزلاني فلاحقتهم مجموعات من جنود كتيبة الهندسة الموالين للجمهورية. عندها قام علي العمري وابنته حفصة بفتح باب قصرهم واستقبلوا الهاربين الذين اخذوا بدورهم وبعد دخولهم الدار بإطلاق النار بغزارة على الطرف الأخر من الرافضين لمؤامرة الشواف.. وإثر ذلك القتال تم قتل المعتصمين في القصر ومن ضمنهم حفصة ووالدها.

 مرة أخرى نؤكد بان الصور التي أظهرت بعض أشخاص معلقين على أعمدة الكهرباء باعتبارهم من المتآمرين وأعوانهم، والذين أكد الملفقون بأكاذيبهم ويؤكدون بشكل مستمر كذباً بان هذه الصور التقطت في مدينة الموصل، وهي لأنصار الشواف الذين تم قتلهم خلال تبادل إطلاق الرصاص مع المقاومة الشعبية. ولكن حقيقة هذه الصور، هي أن جثث المعلقين على أعمدة الكهرباء لم تكن جثث متآمرين عراقيين من أتباع عبد الوهاب الشواف، بل كانت الصور لأبطال جزائريين قتلوا على أيدي المستعمر الفرنسي ولجأت قوات الاحتلال الفرنسي إلى أقامة المشانق وتعليق جثثهم على وفق ما جاء في الصحافة الفرنسية والعالمية حينذاك، وقد استغلت القوى المتآمرة ووسائل الإعلام المناوئة للجمهورية وبالذات إذاعة صوت العرب من القاهرة هذه الصور لتلصق فعلها برجال المقاومة الذين أبطلوا مؤامرة الشواف وقضوا عليه. وقد بينت ذلك التلفيق والتشويه في الكثير من المرات، ورغم ذلك فإن أنصار ومؤيدي الشواف لا زالوا يصرون على أن هذه الصور التقطت في الموصل.

الأكاذيب والتلفيقات لابد لها أن تنكشف، فحبل الكذب قصير، ولا بد من أن تظهر الحقائق. وهذا ما حدث وسوف يحدث دائما. ففي مناسبة مرور 62 عاما على ذكرى مؤامرة الشواف، نشر المؤرخ الدكتور إبراهيم خليل العلاف وهو أحد المؤرخين لتاريخ الموصل، وعلى موقعه في " الفيس بوك”. وفي مجال ذكر قصة الفتاة الموصلية حفصة العمري، كشف ولأول مرة مؤكدا أن جثة حفصة العمري لم يجرِ سحلها بل أن أحد أبناء الموصل واسمه عبد الحق الكحلة قام بدفنها بعد أن أخذ الجثة من المستشفى. وهكذا ورغم محاولات تزوير الحقائق وتشويه وقائع التاريخ وتمرير الأكاذيب، فالحق يظهر ناصعاً ويهزم الباطل الذي ادعى كذباً تعليق جثة حفصة العمري.

عرض مقالات: