منذ نشأة النظام المحاصصاتي الطائفي والأثني بعد سقوط الدكتاتورية في عام 2003 بواسطة الأحتلال الامريكي والزحف جار من قبل قوى الاسلام السياسي لأضفاء الأسلمة على مظاهر الحياة المختلفة وتكريس قيم الكراهية والأقصاء لمختلف المكونات الأثنية والدينية والمذهبية وفرض لون واحد من الطقوس والممارسات العبثية، والتي تكمن في جوهرها ليست قيم التسامح الديني المتعارف عليها في المجتمع العراقي بمختلف مكوناته الأثنية والدينية والثقافية بل هو فرض ممارسات الأكراه في تبني وفرض طقوس قهرية من قبل احزاب اسلاموية تتدعي انها تجسد الدين الاسلامي بقيمه المتعارف عليها من صدق ووفاء والحفاظ على الأمانة وتقبل الآخر المختلف، ولكنها في الممارسة العملية تجسد اجندة تخريبية تلغي الآخر وتحرض على قتله وتصفيته ان لم يمتثل لأوامر الحزب الاسلاموي المعني او المتلبس برداء المذهبية ذات الكراهية لكل انتماء آخر عبر تأطير وزج المذهب في السياسة وترسيخ ثقافة الأستحواذ في كل مفاصل الدولة.

منذ 2003 بعد سقوط دكتاتورية صدام دخل العراق في شرنقة الطائفية والاثنية البغيضة حتى أصبح جسد الدولة ومؤسساتها بالكامل أسير لثقافة الغنيمة الطائفية والاثنية وباتت اجهزة الدولة معبئة باقتسام مناطق النفوذ، انه احتلال من نوع اخر للدولة ومؤسساتها، بل انه خراب يخطط له لأنهاء الدولة العراقية ومؤسساتها عبر احتوائها فئويا وألغاء لدورها الوطني الشامل بعيدا عن مختلف الأنتماءات.

هذه المرة تطال المحاصصة المحكمة الاتحادية، وعلى الرغم من الاعتراضات والرفض الذي جوبهت به الأحزاب الإسلامية الشيعية والسنية في البرلمان العراقي منذ العام 2019، في محاولاتها الرامية إلى إدخال رجال الدين ضمن عمل المحكمة الاتحادية العليا ومنحهم صلاحيات واسعة في قراراتها، إلا أنها لم تمنع حصول توافق سياسي يُفترض بعرف المحاصصة السيئ أن يتحول إلى تشريع ملزم خلال الأيام القليلة المقبلة، انها سلطنة المحاصصة النشاز.
وحاولت منظمات المجتمع المدني والناشطين والنقابات خلال العامين الماضيين، من خلال ندوات ومؤتمرات، إيقاف محاولات معظم الكتل السياسية لإدخال المحاصصة إلى عمل المحكمة الاتحادية العليا عبر دخول  فقهاء الدين من المذهبين الشيعي والسني، ومنحهم صلاحيات التصويت ورفض القوانين والقرارات التي يجدونها مخالفة للشريعة الإسلامية في المحكمة الاتحادية.
وبموجب المادة (92) من الدستور العراقي، تتكون المحكمة الاتحادية العليا من عدد من القضاة، وخبراء في الفقه الإسلامي، وفقهاء القانون، يُحدد عددهم، وتُنظم طريقة اختيارهم وعمل المحكمة، بقانون يُسَن بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب.
ووفق المادة (93) من الدستور، فإن اختصاصات المحكمة الأساسية تنحصر بالرقابة على دستورية القوانين والأنظمة النافذة وتفسير النصوص الدستورية والفصل في القضايا التي تنشأ عن تطبيق القوانين والتعليمات الصادرة من السلطة الاتحادية والفصل في المنازعات التي تحصل بين الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم والمحافظات والبلديات والإدارات المحلية والمصادقة على نتائج الانتخابات. وهناك توقعات بأن المحكمة الاتحادية ستسير على خطى المحاصصة الطائفية البغيض بما يلحق الأذى بكل المكونات الدينية والمذهبية ويكرس تصدع الوحدة المجتمعية ويعيد انتاج التحريض على الطائفية والاثنية.

أن معضلة مجتمعنا الكبرى هي ليست مع أشخاص، بل مع الأسلام السياسي الغير مؤمن بالديمقراطية أصلا، والتي يراها لعبة غربية لا تصلح لمجتمعاتنا، وأن الاسلام السياسي مكره على ممارستها في ظل الظروف العالمية الضاغطة والتي لا تقبل إلا بالتدوال السلمي للسلطة وفي ظروف طبيعية وصحية. في عودة سريعة لضبط مصطلح الديمقراطية وماهيته والذي يخدمنا كثيرا في هذا المقال، وهو أن الديمقراطية تعني حكم الشعب، أو الحكم للشعب، وإذا كان للديمقراطية مصطلحات عديدة إلا إن لها مدلولا سياسيا والذي شاع استخدامه في كل الأدبيات والفلسفات القديمة والحديثة وأنها مذهب سياسي محض تقوم على أساس تمكين الشعب من ممارسة السلطة السياسية في الدولة، فالكلمة العليا والمرجعية النهائية إنما هي للشعب ولا شيء يعلو فوقه، فهي تعني أن يضع الشعب قوانينه بنفسه، وأن يحكم نفسه بنفسه، ولنفسه، والحكومة التي تقبلها النظرية الديمقراطية هي الحكومة التي تقر سيادة الشعب وتكفل الحرية والمساواة السياسية بين الناس تخضع فيها السلطة صاحبة السلطان لرقابة رأي عام حر له من الوسائل القانونية ما يكفل خضوعها لنفوذه، وقد تبلورت هذه الفكرة فيما بعد تحت مصطلح السيادة، وقد عرفت السيادة بأنها سلطة عليا مطلقة لا شريك لها و لا ند متفردة بالتشريع الملزم، فيما يتعلق بتنظيم شئون الدولة أو المجتمع، فلها حق الأمر والنهي والتشريع والإلزام بذلك، لا يحد من إرادتها شيء خارج عنها، ولا تعلوها أو تدانيها سلطة أخرى، والسيادة في الفكر الديمقراطي إنما هي الشعب. وتتمثل ممارسة الشعب للسيادة في ثلاث جوانب رئيسية على الأقل هي:
ـ إصدار التشريعات العامة الملزمة للجماعة التي يجب على الجميع الالتزام بها وعدم الخروج عليها، وهذه تمارسه السلطة التشريعية.
ـ المحافظة على النظام العام في ظل تلك التشريعات، وهذه تمارسها السلطة التنفيذية.
ـ حل المنازعات سلميا بين المواطنين انطلاقا من هذه التشريعات، وهذه المهمة تمارسها السلطة القضائية، ويتبين من ذلك أن السلطة التشريعية هي أم السلطات الثلاث.
وعلى خلفية هذه الرؤى فأن الديمقراطية كفلت الكثير من الحقوق والحريات التي تتحقق بها إنسانية الإنسان كحرية التنقل، والاستقلال في الرأي والتفكير، والمشاركة في القرار السياسي وفي اختيار الحكومة، وفي القدرة على رفض الحكومات وتغييرهم في حالة عدم صلاحيتهم، وفي حق التملك وحق الأمن والأمان، كما يحقق المساواة للجميع أمام القانون، والدعوة إلى الآراء وحرية تكوين الأحزاب، وحق المعارضة للسلطة القائمة، وحق الاقتراع العام، وتنظيم الانتخابات للوصول إلى الحكم، وتداول السلطة بين أفراد الشعب، واعتماد مبدأ الأغلبية في اتخاذ القرارات وسن القوانين.
وفي زحمة هذه الصلاحيات الواسعة للشعب في ظل الديمقراطية الحقيقية يقع الإسلام السياسي في دوامة الصراع النفسي والسلوكي مع القوى الديمقراطية ومع الشعب، كون هذه الأخيرة مصدر كل السلطات وبالتالي تشكل بديلا عن الشريعة الإسلامية ذات الطابع الإلهي، أي كما يفهمه الإسلام السياسي بأن جعل التشريع بيد الشعب هو إلغاء لشريعة الله تعالى، وهذه الخاصية التي تميزت بها الديمقراطية على تعاقب التجارب والأزمان، تعد من الاختلافات الحقيقية بينها وبين الإسلام، انطلاقا من قاعدة الإسلام التي جوهرها هي توحيد الله تعالى، والتي تعني أن يكون المسلم عابدا لله وحده، وذلك بالاحتكام إلى ما شرعه الله تعالى في كلها من صلاة وصيام وحج، معاملات بين الناس وخصومات، وفي شؤونه نه كلها، وبالتالي أن تحل سلطة الشعب مكان سلطة الإلهة أمر غير مقبول جملة وتفصيلا لدى الإسلام السياسي.
واليوم إذ تتطور الحياة الإنسانية على أسس من معطيات مختلف العلوم الإنسانية والطبيعية وتزداد مقدرة الإنسان الفعلية في التحكم في الطبيعة والمجتمع، فأنها تقع في صراع مستمر مع الخطاب الديني الذي أريد له أن يكون صالحا في كل زمان ومكان وبين الحياة المتغيرة بدون انقطاع التي تستدعي الاعتماد مزيدا على الذكاء الإنساني ومقدرته على إيجاد مختلف الحلول للمشكلات الإنسانية انسجاما مع ظروف العصر ومكانة الإنسان الريادية في التقدم. هذا لا يعني نهاية للدين، فالدين باقي في أكثر المجتمعات تطورا وله فسحته في حياة الناس التي لا تتعارض مع سنة وقوانين التطور والارتقاء، فالدين باقي هنا كحاجة شخصية وكما هي نشأته الأولى.

اما بخصوص المحكمة الاتحادية وتركز معظم النقاشات وحالات عدم الرضا عن القانون، حول الفقرة المتعلقة بإضافة 4 أعضاء من فقهاء «الفقه الإسلامي» إلى عضوية المحكمة المؤلفة من 11عضواً، ضمنهم الرئيس ونائبه، وانصب معظم مخاوف المعترضين على القانون الجديد حول إمكانية تحول العراق إلى «دولة دينية» بوجود الثقل الذي يمثله الفقهاء الأربعة، أو أن تتحول المحكمة الاتحادية إلى «مجلس لتشخيص مصلحة النظام» على غرار النموذج الإيراني. ولعل ما عزز تلك المخاوف هو أن النسخة الأولى من القانون التي قدمت إلى البرلمان العراقي عام 2015، كانت تتضمن فقيهين اثنين فقط ضمن أعضاء المحكمة، لكن النسخة الجديدة للقانون رفعت سقف تمثيلهم إلى أربعة.

أن الخندقة الدينية للنظام السياسي وما تسوق وراءها بالضرورة من خندقة مذهبية يعني بالتأكيد أن يلحق الغبن والتميز الديني والمذهبي لقسم هام وغير قليل من المواطنين، وهذا ناتج من أن النظام السياسي المتخندق مذهبيا يتخذ من دينه ومذهبه إطارا مرجعيا ومحكا لتقيم دين ومذهب الآخر. وهو خلاف المفهوم العصري للدولة التي لا تعرف المواطن إلا من خلال الأوراق الثبوتية التي تشير إلى اسمه الثلاثي أو الاسم واللقب، أي رمزيته وخصوصيته في سجل الأحوال المدنية. أما خلاف ذلك فنأتي بأفعال تدفعنا إلى البحث (النبش) والتنقيب عن دين الآخر ومذهبه، ونذهب بعيدا في فحص أوراقه الثبوتية للتأكد من (سلامته) الدينية والمذهبية من خلال أسمه وأسم عائلته. وفي ذلك تجاوزا على حريته الشخصية وحرية معتقده، والتي يفتخر بهما أي نظام ديمقراطي. ونحن نعرف أن الدين والمعتقد الديني هو حرية شخصية قد تعجبني وقد لا تعجبك، والجميع ورثها من آباءه وأجداده، فأنا شيعي، وأنت سني، وهذا مسيحي، أو صابئي أو يزيدي. ولا اعتقد أن أحد منا بذل جهدا استثنائيا لكي يدرس حقيقة انتمائه الديني أو المذهبي لكي يفضي إلى تغيره، إذا ما توفرت القناعة لديه، بل نبحث عن أدلة لتكريسه، لأنه مكون جمعي. وبالتالي نرثه كما نرث خصائصنا الوراثية: لون العينين، شكل الأنف، لون الشعر، طول القامة وهكذا.

المحكمة الاتحادية ليست استثناء من صراع قوى المحاصصة بل انها ستشهد أكثر الصراعات شراسة انطلاقا من خطورة المحكمة الاتحادية في الشأن العام وبالتالي فالصراع عليها هو صراع حياة أو موت لقوى المحاصصة وان الاسلام السياسي سيلوث المحكمة الاتحادية كما لوث كل مؤسسات الدولة وما تبقى منها في عرف المحاصصة وامراضها المستعصية.

عرض مقالات: