رغم الفقر المدقع الذي شاع في عراق اليوم، إذ أعلنت وزارة التخطيط ارتفاع مستوى الفقر ليصبح 34 % من نفوس السكان، الا ان البطاقة التموينية أصبحت بائسة بدلا من أن تصبح نافعة لملايين الفقراء، أما التغذية المدرسية التي كانت معروفة في المدارس العراقية قبل عقود قليلة من السنين، أصبحت من ذكريات السنين الغابرة.

استفدنا من برامج التغذية المدرسية في اواسط عقد الخمسينات من القرن الماضي، اي حوالي عام 1955 - 1960، في مدينة الكوت، التي درست في مدارسها الابتدائية، وكانت تقدم وجبة فطور صباحي يتألف من البيض والحليب وجرعة دهن السمك - كنا نسميها كبسول دهن السمك.

كانت ساعة تقديم الفطور الصباحي حفلة بهيجة فهي استراحة ومناسبة للحصول على وجبة خفيفة من الطعام.

حصل تطور في الوعي إثر ثورة الرابع عشر من تموز، وانعكس ذلك الوعي على المدارس، فارتفع مستوى الاهتمام بالمسؤوليات وشمر العديد من المسؤولين عن ساعد العمل المخلص من أجل المساعدة في تغيير الواقع المتخلف الذي كان يخيم على المجتمع والفقر المنتشر بين الفئات الشعبية والذي كان يلقي بظلاله على أكثر من خمسين بالمائة من المواطنين.

كان والدي عبد الستار كاظم مديرا لمدرسة النجاح في الكوت عام 58 قبل ان يصبح مشرفا تربويا اواسط الستينات. وما لفت نظرنا في البيت انه جاء بمبلغ من الدنانير في مغلف أبيض وضعه في دولاب الملابس - الكنتور- وقال لنا: هذه فلوس التغذية لا أحد يأخذ منها. وكان كل يوم يخطط صفحة بيضاء ويدخل المصروفات في جدول التغذية.

قام ببعض التغييرات في تقديم الوجبة الغذائية للطلاب. فغير موعد تقديم الطعام من فرصة الدرس الثاني الى بداية الدروس الصباحية، اي بعد انتهاء الاصطفاف المدرسي الذي يجري في الصباح. وقد علل هذا التغيير بملاحظته ضعف تلقي الطلاب الفقراء للدروس بسبب الجوع، لان اغلبهم كانوا يأتون للمدرسة دون افطار في انتظار حصة التغذية المدرسية. لذلك ارتأى تغيير جدول الدروس وجعل فرصة التغذية في بداية الدوام المدرسي.

كما أضاف الى حصة التغذية حفنة من التمر لأنه رخيص الثمن ومتوفر في الاسواق ويعد مادة غذائية متكاملة.

كانت مشكلة الخبز مشكلة صعبة لعدم توفر الافران الميكانيكية في تلك الايام، لذلك كان توفير الخبز بالاعتماد على الافران القليلة المتوفرة في سوق المدينة يسبب الكثير من مشاكل عدم الالتزام في التوقيت اللازم والذي يجب أن يكون متوفرا في ساعات الصباح الاولى، وأي تأخير في وصول الخبز يسبب تأخيرا في توزيع حصة التغذية ويسبب ارباكا في جدول الدروس.

لذلك من أجل حل هذه المشكلة استعان بخبازات المدينة لتزويد المدرسة بالخبز الحار صباحا، فكانت الخبازات يأتين بالخبز، يحملنه فوق رؤوسهن المعصوبة بعمائم براقة، وسط سعادة الطلاب الذين ينتظرون قدومهن كل صباح.

ملاحظة: عبد الستار كاظم السورملي، مشرف تربوي واديب وصحفي عمل في حقل التربية والتعليم نحو نصف قرن قدم خلاله خدمات جليلة في تأليف الكتب المدرسية بالعربية والكردية والترجمة من الكردية الى العربية والصحافة والتعليم.

ولد في مدينة الكوت عام 1925 توفي ببغداد 1996.

عرض مقالات: