التاريخ وأحداثه يقدم لنا العبر والدروس الكثيرة، ولكن قلما يتعظ أبناء آدم منها، ويختارون الطريق السليم كي تصل مجتمعاتنا إلى درب الاستقرار والأمان والتكافل الاجتماعي. لقد لجأت تيارات سياسية متطرفة، تارة بواجهة قومية أو دينية وتارة أخرى بواجهة عشائرية أو مناطقية، إلى العنف والإرهاب كي يفرضوا على الناس إرادتهم ونمط تفكيرهم المعوج. ولكن هذه الممارسات قد تشبع الغرائز المريضة لمرتكبيها لحين، أو تفرض على المقابل الانصياع المؤقت، إلاّ أنها في نهاية المطاف تتعرض للإدانة والشجب والرفض من قبل المجتمع، ويذهب منفذيها إلى مصيرهم المنشود في مزبلة التاريخ.

هكذا كان مصير أودولف هتلر النازي في ألمانيا، الذي ما أن سطا على المستشارية الألمانية حتى شكل الميليشيات السوداء (أس أس)، وبدأ بمطاردة أنصار الحزب الشيوعي الألماني والحزب الاشتراكي الألماني، اللذين لو قررا التحالف بينهما لما وصل هتلر إلى سدة المستشارية وفرض استبداده على الشعب الألماني وشروره على العالم، وأغرق الجميع ببحر من الدماء. ولكن هتلر لم يحقق أحلامه المريضة، إذ سرعان ما انتهى به الأمر بعد اندحاره عسكرياً إلى حرق نفسه وزوجته وبعض كبار زمرته ليطوي التاريخ صفحة مشينة من تاريخه. والأمر نفسه طال الشعب الإيطالي في عهد بينيتو موسوليني الفاشي، الذي قلّد ممارسات قرينه هتلر، وانتهى به الأمر إلى أن يسحق بشكل مريع على يد الأنصار الإيطاليين، وذهب هو الآخر محملاً بلعنات الضحايا إلى المزبلة اللائقة به.  والأمثلة عالمياً لا تعد ولا تحصى، ولا تخفي عن القارئ الكريم.

أما نحن في العراق، فالتاريخ الحديث منذ تأسيس دولتنا الوطنية بقرن ويزيد، شهدنا نفس الممارسات العنفية والإرهابية على يد الحكام الذين تولوا كراسي الحكم. ففي عهد تجبر نوري السعيد، شهد العراقيون حروباً وعنفاً موجهاً ضد العراقيين من عمال وفلاحين ومثقفين، ومن المكونات القومية كردية كانت أم آثورية، وحصل ما حصل في الهجوم على السجناء السياسيين وإزهاق أرواحهم، ووجهت الأسلحة بمختلف أعيرتها ضد المظاهرات السلمية للعراقيين المطالبين بالحرية والعدل وعدم ارتهان مصير العراق للأجانب. وبلغ الأمر حداً أن تم لأول مرة في تاريخ العراق إعدام قادة أحزاب وطنية عراقية، قادة الحزب الشيوعي العراقي بدون حق في شباط عام 1949. ولكن في نهاية الأمر، وفي 14 تموز لم يقف العراقيون مدنيون وعسكريون للدفاع عن ذلك الحكم وذهب في مهب الريح. ثم دشنت فلول الردة نصيبها من هذا المصير في شباط عام 1963، ولكنها رغم وحشيتها وتنمرها وممارستها القمعية الجديدة الفريدة التي طالت الشيوعيين والوطنيين العراقيين، والدعم الذي تلقته من عواصم إقليمية وأجنبية، إلا أنها لم تستطع الاستمرار بانتهاكاتها طويلاً وسارعت بالسير صوب مزبلة التاريخ بعد شهور قليلة من انقلابهم المشؤوم. ولكن بعد سنوات لم تتعظ حليمة من عادتها القديمة في عام 1968، ولم تأخذ بدروس ومآل انقلابهم المدان في شباط 1963، ليشيعوا من جديد نهج البلطجة وسفك الدماء الذي طال الوطنيين العراقيين من عرب وأكراد ومكونات دينية. وأغرقوا الشعب العراقي في آتون حروب داخلية وخارجية مما عرض سيادة البلاد ومصير العراقيين إلى ظروف لم يشهدوها في كل تاريخهم، ومازالت هذه الظروف هي التي تلف بخناقها على الشعب العراقي.

وما الأحداث التي شهدتها البلاد بعد انهيار ذلك النظام المدان إلا استمرارا لذلك العنف وانتهاك القوانين وفرض نمط من "الثقافة" والأعراف قائمة على العنف والعسكرة والقسر وإشاعة الفرقة والكراهية بين أفراد الشعب. فقد سحقت الهوية الوطنية، وأنحدر الناس لاهثين وراء هويات هشة مزقت النسيج العراقي. وارتهنت البلاد لأطراف إقليمية وخارجية تحت عناوين مذهبية وقومية. وتحولت "كعبة" غالبية الحركات السياسية إلى طهران وأنقرة وواشنطن، وإذا ما اختلفت وتقاتلت فيما بينها أو اختلفت عل تشكيل الوزارة، فإن هذه العواصم تستقبلهم مقابل بيع الهوية والإرادة العراقية إلى حكام هذه البلدان. وإذا ما شعرت الميليشيات المتطرفة إن البساط يهتز تحت قدميها وأن الشعب قد أخذ يعي ويتحلى بقدر من الوعي، فهناك ممارسة جاهزة واحدة ووحيدة وهي العنف وكواتم الصوت وإزهاق أرواح 700 شهيد وإصابة 20 ألف من شبيبة الحراك التشريني، ولم يغب عن بال أرباب التطرف أخيراً وتم حرق مقر الحزب الشيوعي في النجف أيضاً. هذا هو العلاج لمصائب العراقيين، كما يحلو لفرسان العنف والتطرف، زيادة العنف وانتهاك القوانين والتنمر والأساليب التي جاءتنا من وراء الحدود. ولكن هذه الأساليب لم تحل المشاكل في تلك البلدان، ولا تحل مشاكل العراقيين ولا تبني بلدهم، ولا توفر فرص عمل ولا تبني المدارس والمستشفيات ولا تحل مشكلة السكن ولا تحد من مستوى الفقر، ولهذا فلينتظر أرباب العنف مصيراً شبيهاً بالمصير الذي طال كل أرباب العنف والغدر في العالم من هتلر إلى صدام حسين وإلى أبوبكر البغدادي وقائمة الغدر. وعليهم أن يتعظوا أن الإفلاس السياسي الذي يعانون منه لا يمكن علاجه بالتنمر والبلطجة، بل بالانصياع لإرادة الشعب الذي سيلقنهم درساً إضافياً كما لقن أمثاله في تاريخ العراق. وعلى الشعب ألا يقع فريسة لشعارات هؤلاء المذهبية والدينية والقومية، والوقوف ضد هذه الممارسات وفضحها. وأن تبادر السلطات الثلاث بجدية اتخاذ كل التدابير القانونية ضد هؤلاء القتلة، لا أن تكتفي بدور المتفرج وتوجيه الاتهام ضد "طرف ثالث" وتتخلى عن متابعة المتهمين بهذه الأفعال، وإلا سيكون حالهم كحال "الساكت عن الحق شيطان أخرس".

عرض مقالات: