في صباح يوم الثامن من شباط عام 1963 كانت ثمار خطط جاسم العزاوي قد أينعت وبدأ قطافها وما أن أذيع بيان الانقلابيين الأول حتى هبت الجماهير تملأ شوارع بغداد والمحافظات الأخرى لتفسد خطط الانقلابيين التي توقفت دباباتهم بعيدا عن وزارة الدفاع مقر الزعيم عبد الكريم قاسم، في ذلك الوقت كان عبد الكريم قاسم هو الآخر بعيدا عن وزارة الدفاع وحين عاد أفسحت له الجماهير الطريق وأغلقته على المتآمرين.

استقبلت الجماهير عبد الكريم قاسم عند بوابة وزارة الدفاع تصرخ:

بسم العامل و الفلاح يازعيم إنطينا سلاح

أجابهم الزعيم: - سويعات .... سويعات وينتهي كل شيئ.

وقام بصرفهم و اتصل الزعيم بقادة الوحدات العسكرية المرابطة على مشارف بغداد ولم يرد عليه أحد ... اتصل بقائد اللواء التاسع عشر، لواء عبد الكريم قاسم الذي قاده صبيحة 14 تموز عام 1958 والذي حرص عليه كما تحرص الأم على وليدها الوحيد وخصه بالتسلح الجّيد وبالرعاية المميزة التي لم يمنحها لتشكيل عسكري آخر وأمر قائد اللواء الذي وحده رد عليه من بين قادة الوحدات القريبة من بغداد والتي تجاهلت نداءه أن يأتي سريعًا لنجدته ولم يعلم الزعيم أن جاسم العزاوي قد نصب الشكرجي أحد المشاركين في هذا الانقلاب قائدا للواء الزعيم المفضل، وما أن سمع الشكرجي صوت الزعيم حتى رد عليه بسيل من الشتائم والمس ّبه وأصناف بذيئ الكلام. في أولى ساعات يوم الثامن من شباط وجه الانقلابيون أولى رصاصاتهم لاغتيال جلال الأوقاتي قائد القوة الجوية الذي ذهب قبل أشهر إلى قيادة حزبه يحذرهم من عبد الكريم قاسم قائلا:

- هذا الرجل سوف يدمر نفسه ويدمرنا معه. وحتى هذا التحذير كان يحمل من العطف على عبد الكريم قاسم بأكثر من نية التآمر عليه.

أدرك الزعيم لدى سماعه لشتائم طه الشكرجي أنه قد فقد السيطرة على الجيش ومع ذلك فقد رفض إعطاء السلاح للذين هتفوا له باسم العامل و الفلاح فقد اعتقد أن هؤلاء الذين يهتفون هم من أبناء و إخوان و آباء الذين أنشأ من أجلهم محاكم العرف العسكري التي كانت أحكامها تتسم بالحقد على اليساريين دون النظر في أدلة الواقعة ولم يعلم الزعيم أن هؤلاء الفقراء الذين ملأوا الشوارع و أوقفوا الدبابات المتجهة لقتله هم أناس نزلوا للشارع كي يدافعوا عنه وعن ثورة تموز التي مازالوا يعتقدون أنه رمزًا لها ولربما لو هتفت هذه الجماهير:

باسمك يازعيم أعطنا السلاح لأعطاهم إياه فلقد كانت مفردة العامل والفلاح مخيفة حتى للذين ينادون بها.

في تلك الساعة لابد أن الزعيم قد أيقن أن جاسم العزاوي الذي منحه صلاحية نقل كبار قادة الجيش وأختاره مشرف على الإذاعة هو من خذله وهيئ لمثل هذه الساعة.

ورغم يقينه هذا لم يختر الزعيم قيادة المقاومة على رأس الشعب الذي ملأ الشوارع وأرعب المتآمرين الذين اضطروا لرفع صور الزعيم على دباباتهم كما فعل ابن العاص في خديعته الكبرى يوم صفين وفقد فرصة نجاته وبدلا من ذلك اختار يوم التاسع من شباط قسم عبد السلام عارف وأحمد حسن البكر له:

نقسم بشرفنا العسكري والمدني سلم نفسك وسوف لن يصيبك أي مكروه.

وترك الشعب الذي هرع من أجله بين يدي هؤلاء المتآمرين تماما كما تترك قطعان الماشية لمئات الذئاب، تلك الذئاب التي لم تكن جائعة أبدا إنما الحقد هو الذي كان يحرك أنيابها.

ولا شك أن الزعيم يوم التاسع من شباط وحين عزم على التسليم قد تذكر نصائح محمد حديد الذي رسم له خطه السياسي على قضبان الحديد وأركبه العربة التي سارت به نحو الهاوية.

ولعل وجود المهداوي وطه الشيخ أحمد و اللذين جاءا ليشاركانه المصير هو من حفز الزعيم على عدم الأخذ ُباختيار المقاومه رغم إلحاحهما عليه وموافقته على الاستسلام فلربما اعتقد هذا الزعيم والذي أّصم أذنيه عن مشورة المهداوي وطه الشيخ أحمد قبل هذا اليوم بل وعزلهم عنه أنه لو قام بتوزيع السلاح على هذه الجماهير التي تطالب بالقتال فلسوف يتزعمها المهداوي وطه الشيخ أحمد اللذين هما الأقرب إلى العامل و الفلاح منه واختار الاستسلام لقسم عارف و البكر اللذين ما أن شاهداه إلا وجرداه من رتبته العسكرية و أهاناه و أعدماه فورا، ولم ينل منهما شيئا سوى كأس ماء تمضمض به ولم يشرب فقد كان صائما ولعله الصائم الوحيد في شهر رمضان ذاك من بين قادة الانقلاب اللذين يملأون غرفة دار الإذاعة والذين توضئوا بالدماء في ذلك اليوم.

في جامع المأمون كان الاخوان المسلمين ينادون ويعيدون بيانات الإنقلابيين بأعلى الأصوات من خلال سماعات المسجد وفي مكان آخر كان رجل الدين الخالصي يحمل السلاح مع أتباعه يؤازر الإنقلابيين ويسفك الدماء في الكاظمية.

لقد ظلت أحداث يومي الثامن والتاسع من شباط عام 1963 محفورة في أذهان من كان حّيا آنذاك فبعد سنين من تلك المذبحة وفي زيارة الأربعين عام 1963 وقف موكب الكاظمية يهتف:

الكاظمية الجريحه أتنادي الحسين

 وتصيحه إبرّدة رمضان نزلت شبان

قاتلنا الجيش بسلاحه إشهد يحسين

أما موكب الكرد الفيليه فقد رد يهتاف آخر:

هاي الرايه من بغداد جايه تشكي من الأستبداد

وهاذه الشعب التلهب ناره خلو من كدامه إحجاره صيده أوصارت صياد

كان الزعيم ساعتها يشعر بالخوف من الذين كانوا ومازالوا يصفقون ويهتفون باسمه فقد وضع بعضهم خلف القضبان وتغاضى عن اغتيال بعضهم بواسطة الذين يركبون الدبابات نحوه فقد اعتقد الزعيم أن التفاهم مع هؤلاء الإنقلابيين سهلا فهو من عفا عنهم حين هاجموا موكبه قبل سنوات وقتلوا سائقه و أخرجهم بعد ستة أشهر من عقوبة الإعدام و السجون، و في تلك الساعات من يوم التاسع من شباط شعر الزعيم أنه غير مهدد من الانقلابيين بقدر خشيته من هذه الجماهير التي نزلت للشوارع من أجله ، ولم يأمن حالها، خاف الزعيم طوال اليومين من الناس العزل التي جاءت لإنقاذ حياته و اطمأن للذين يحملون السلاح من الانقلابيين والذين يسعون لقتله.

وقد روى عبد الستار الدوري أحد ً قادة ذلك الانقلاب عن يوم التاسع من شباط أنه وحين اقتادوا عبد الكريم قاسم لدار الإذاعة مخفورا خاطب جلاديه:

- أنا أنقذتكم من الموت بتسليم نفسي.