تصادف، اليوم، ذكرى مرور 55 سنة على اختطاف واغتيال زعيم اليسار المغربي المهدي بن بركة في 29 تشرين الأول 1965، أيضاً مناسبة مرور 100 سنة على ميلاده بالعاصمة الرباط. يعد المهدي بن بركة (1920- 1965)، مؤسس حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية اليساري في المغرب، أبرز معارض للملك الراحل الحسن الثاني في بداية ستينيات القرن الماضي. تعرض لمحاولة اغتيال ما بين الدار البيضاء والرباط، اضطرته إلى مغادرة وطنه في بداية حزيران 1963. لم يمض شهر حتى كان إسمه من ضمن قائمة المحكومين بالإعدام غيابياً بتهمة التآمر في ما عرف في التاريخ السياسي المغربي الحديث بـ”مؤامرة تموز 1963 ، التي أدت إلى موجة اعتقالات واسعة في صفوف حزب بن بركة، ومحاكمة عدد من قادته وأبرز مناضليه بتهمة محاولة اغتيال الملك الحسن.

ملاحقة في المنافي

خلال تواجده خارج المغرب، سعى بن بركة إلى ربط علاقات متينة مع حركات التحرر والأنظمة التقدمية في الوطن العربي والعالم، ثم أصبح سكرتيرا للجنة التحضيرية لـ”مؤتمر القارات الثلاث”، بعدما كان من أبرز دعاة قيام تحالف أممي جديد بين قارات افريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. هذا الدور جعله محط أنظار العديد من أجهزة الإستخبارات. كان ضباط من “السي آي أيه” (الإستخبارات الأميركية) يحضرون على نحو دائم إلى مقر جهاز “الكاب وان” (جهاز استخبارات سري مغربي) في حي حسان بالرباط، وهو الجهاز الذي أشرف على تنظيم عملية اختطاف المهدي بن بركة. (كتاب “اللغز” حول تصفية المهدي بن بركة، تأليف عميل المخابرات السابق أحمد البخاري،2001).

كانت الجزائر بوابته الكبرى التي عبر منها صوب المشرق العربي. اضطر المهدي بن بركة من أجل إتمام دراسته العليا إلى الانتقال إلى العاصمة الجزائر، ومن هناك عاد بشهادته العليا في الرياضيات. وإلى الجزائر، لاذ بعد مطاردته والحكم عليه بالإعدام، وقد اتخذه صديقه الرئيس الجزائري أحمد بن بلة مستشارا له. وزاد ارتباط بن بركة بالجزائر بعد انحيازه للجزائريين في ما يسمى في الأدبيات التاريخية “حرب الرمال” الحدودية بين المغرب والجزائر (1963). وحين تبادلت إذاعات المغرب والجزائر سيلا من الشتائم، انطلق صوت بن بركة من راديو “صوت العرب” في القاهرة،  مدينا بشدة النظام الملكي “الذي يشن بدافع من الإمبريالية حربا عدوانية ضد الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية”.

رأسه بيع في المزاد !

بعد انقلاب حزيران 1965 ضد صديقه أحمد بن بلة، لجأ بن بركة مع عائلته إلى القاهرة، وقد تابع أولاده الخمسة الصغار دراساتهم بمصر وصارت لكنتهم العربية تطغى عليها اللهجة المصرية. وسيقول المهدي لصديقه محمد حسنين هيكل مستشار جمال عبد الناصر: “أخيراً، منذ وجودي في مصر تحت حمايتكم، أنام مطمئناً”. لكن بعد فترة، لاحظ البوليس السري المصري أن غرباء يحومون حول الفيلا التي يقيم فيها المهدي وعائلته بشارع الدكتور محمد علي البقلي، ولذلك زادت الاحتياطات الأمنية من حوله.

ويروي الكاتب والصحافي المصري سعيد الشحات، أن الملك الحسن الثاني وخلال لقاء له مع جمال عبد الناصر بعد مؤتمر القمة الذي عقد في المغرب سنة 1964، قال له إنه ليست هناك خلافات بين البلدين سوى أن بعض الساسة المغاربة من المعارضة “يستغلون صلاتهم بمصر وبالرئيس شخصياً، وهذا الوضع يحدث التباساً فى العلاقات بين البلدين تستحسن مواجهته بالمصارحة والاتصال الدائم”، وأشار الملك بوضوح إلى النشاط الذى يقوم به المهدي بن بركة، ورد عبد الناصر أنه يعتبر بن بركة صديقاً، وهو رجل يقوم بدور كبير فى الحركات السياسية التي يزخر بها العالم الثالث، وأضاف عبد الناصر أنه يخشى أن يكون هناك من يضخم الأمور أمام الملك، ملمحاً إلى الدور الذى يقوم به الجنرال محمد أوفقير، لكنه أكد على أن آخر ما يفكر فيه هو أن يقحم نفسه في الشؤون الداخلية للمغرب.

كان بن بركة يستعمل جواز سفر دبلوماسي مصري، ومن أسمائه المستعارة اسم “الخولي”. وكان آخر مودعيه في مطار القاهرة، هو الجزائري الأخضر الابراهيمي، الذي كان بمثابة سكرتير لخاص لبن بركة، يرتب مواعيده ويوافق على الراغبين في مقابلته. (شهادة الأخضر الابراهيمي في الذكرى 50 لاختطاف بن بركة، الرباط، تشرين الأول 2015).

قبل ثلاث سنوات، كشف صحافيان إسرائيليان أن رأس المهدي بن بركة بيع في المزاد، وبلغ الثمن مقايضته بأسرار العرب، حيث أكد تحقيق نشر بصحيفة “يديعوت أحرونوت”، الإسرائيلية، ما كان قد أعلنه محمد حسنين هيكل بأن ملك المغرب الحسن الثاني سلم إسرائيل تسجيلات القمة العربية المنعقدة في الرباط في 13 أيلول 1965، مقابل رأس العدو رقم واحد للمملكة. (مجلة “وجهات نظر”، آب 1999) ...

ويقول البشير بن بركة، نجل المهدي بن بركة، لــ”العربي الجديد” (6 تشرين الثاني 2015): “يجب أن لا ننسى بأن بن بركة كان من أوائل الزعماء العرب الذين وضعوا مبكراً القضية الفلسطينية في إطارها السياسي الحقيقي كمعركة من أجل التحرر الوطني”...

ويروي عضو القيادة القومية لحزب البعث المحامي اللبناني جبران مجدلاني أنه “ذات مرة حضر المهدي بن بركة إلى بيروت للاجتماع بي. رفض أن أحجز له في فندق خوفاً من اغتيال الاستخبارات المغربية له، وطلب مني تأمين منزل آمن له. عرضت عليه المجيء إلى منزلي فرفض لأنني معروف ووضعي صعب كوضعه”. يضيف:”سألت مي جنبلاط (والدة الزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط) عن إمكان تأمين شقة له، وفعلت. وأثناء إقامته، مازحته بشكل ساخر حول مخاوفه من الاغتيال. وبعد أيام قليلة على مغادرته بيروت، اختفى في باريس. وقد لمت نفسي كثيراً على مزاحي واستخفافي بمخاوفه”. (“الحياة” اللندنية، 13 تموز 2008).

لم تكن المرأة التي خبأت المهدي بن بركة في لبنان سوى الأميرة مي ابنة الأمير شكيب أرسلان، زوجة الزعيم كمال جنبلاط، وقد توفيت في العام 2013. وفي ذكرى رحيلها الثالثة، سيقف على المنبر ابنها الوحيد وليد جنبلاط، الذي ورث زعامة الحزب التقدمي الاشتراكي في لبنان، ليعدّد مناقب وخصال والدته الراحلة، قائلاً إنها آمنت بحرية الشعوب، وفي طليعتها شعب الجزائر وشعب فلسطين، “فسارت على خطى الأمير شكيب”، ويختم “أنا أذكر غضبها واستنكارها لخطف المناضل العربي الكبير المهدي بن بركة”.

مصيره مازال لغزا

لقد ساهمت شخصية المهدي بن بركة في تكوين الثقافة السياسية لجيل قومي يساري في المشرق العربي، كما يؤكد أحد المثقفين اللبنانيين، وهو الباحث فيصل جلول، المقيم منذ سنوات بفرنسا، في شهادة ألقاها في مهرجان سياسي بضاحية باريس (2003)، ما ترجمته من الفرنسية:

“في بداية السبعينيات كنت ذلك الفتى الذي بدأ للتو يكوّن ثقافته السياسية. نصحني أحد الأصدقاء بقراءة مجلة يسارية أسبوعية لهذه الغاية. من تلك الصحيفة ما زلت أحفظ في ذاكرتي صورة المهدي بن بركة على غلاف كتابه: “الاختيار الثوري في المغرب”، الذي صدر في بيروت باللغة العربية في تلك الفترة، والذي روجت المجلة له حينذاك لشهور طويلة. لقد كان هذا الكتاب فضلا عن “يوميات أرنستو تشي غيفارا في بوليفيا” مدخلا لثقافتي السياسية”...

يوم الجمعة 29 تشرين الأول 1965 تم إستدراج بن بركة إلى الموعد/الفخ في مطعم “براسري ليب” في الحي اللاتيني بباريس. بعد ذلك تم إقتياده إلى حيث تمت تصفيته ومنذ ذلك التاريخ تتعدد الروايات حول مصير جثته. على الأرجح، سيظل لغز مصير المهدي بن بركة من ألغاز القرن الذي مضى، والذي لم يتم الكشف عنه حتى اليوم، خصوصا بعد تصفية معظم المشاركين في الجريمة وغياب الآمرين بها. الثابت أن أجهزة الإستخبارات الأميركية والفرنسية والإسرائيلية والمغربية تورطت في الجريمة.

ومن الصدف المثيرة أن أغلب من كانوا وراء تغييب بن بركة راحوا ضحية القتل والتصفية، بدءا من الجلادين الفرنسيين الأربعة، مرورا بالجنرال محمد أوفقير الذي قاد محاولة انقلابية أعدم بعد فشلها (1972)، والجنرال أحمد الدليمي الذي خطط للتآمر على الحسن الثاني (1983) فتم اغتياله بالرصاص على الطريق بمراكش.

ــــــــــــ

*كاتب مغربي

موقع “180 درجة” – 29 تشرين الأول 2020 (مقتطفات)