أوجعت مشاهد الفقر على امتداد كوكب الأرض قلب معلمي الراحل العلامة البغدادي هادي العلوي، فكرس مشروعه البحثي والعملي لنصرة الخلق، أي من أجل الجنس البشري من حيث جوهره الإنساني بغض النظر عن اللون أو العرق أو الدين. وقد أسس مشروعه في جملته على وحدتين متعارضتين، تتصارعان في ما بينهما حول الإنسان، الأولى تريد أن تشبعه وتكرمه، والثانية تريد أن تفقره وتذله، والفئة الثانية تتحمل مسؤولية المأساة الإنسانية المتمثلة في الفقر، لأن تراكم الثروة الاجتماعية في بنوك الرأسمالية العالمية يؤدي بالضرورة إلى حرمان الأكثرية وترف الأقلية، وحرمان الأكثرية يؤدي إلى إفقارها وإذلالها. فالفقر يمنع الإنسان من حقه الطبيعي في الحياة، والذل يمسخ جوهره البشري. كما أن ترف الأقلية يؤدي إلى فساد المترف، وإفساد غيره. ولذلك تكون السلطة ورأس المال مصدرين أساسيين للطغيان والاستبداد.
لا جدال في أن الثورة الصناعية في منتصف القرن الثامن عشر قد نجحت في انتشال معظم البشر من ذل الفقر. إلا أن نحو أكثر من مليار نسمة من سكان العالم اليوم هم معدمون كلياً في عالم من الوفرة. ويعتقد البعض أن سبب مشكلة الفقر هو نقص الإنتاج، ولكن العالم زاخر بالطعام، كما هو متخم بأناس متخمين من كثرة ما يأكلون. إن وجود هؤلاء الفقراء في الأرض هو بحد ذاته توبيخ من الله لأصحاب رأس المال الذين يحتكرون ثروة المجتمع لحسابهم الخاص في بنوك الرأسمالية العالمية. والحقيقة تقول إن المال يتوفر اليوم بكميات تكفي لسد حاجة كل إنسان يعيش على هذا الكوكب. ولكن ملايين الأسر في أنحاء العالم اليوم ليس لديها هذا المال لتشتري الطعام، ولا تستطيع شراء أدوات الزراعة لتقوم بنفسها بانتاج غذائها. هؤلاء الفقراء التعساء الذين يعيشون على أقل من دولار واحد في اليوم لا يحصلون على كفايتهم من الطعام والمياه الصالحة للشرب والسكن الآمن والرعاية الصحية، إضافة إلى الصرف الصحي وخدمات التعليم.
الفقر وسوء التغذية على العموم يؤثران في مجموعتين هشتين من الناس بدرجات متفاوتة، المجموعة الأولى هم أطفال ما قبل المدرسة، حيث يوجد ملايين الأطفال الذين يعانون نقص الوزن بسبب الجوع الحاد أو المزمن، وغالباً ما يكون جوع أولئك الأطفال ميراثاً من أمهات يعانين سوء التغذية. ويؤثر نقص التغذية في أولئك الصغار، فيجعلهم أقل حماساً للعب والدراسة؛ وكثير منهم يخفق في الحصول حتى على تعليم المرحلة الابتدائية. كما أن الملايين من أولئك الأطفال يتركون المدارس قبل إتمام دراستهم. كذلك يؤثر الفقر والجوع المزمن في النمو العقلي، وتبلغ المأساة ذروتها حين يتعرض هؤلاء الأطفال إلى أمراض معدية، إذ تقتلهم بسهولة أكبر مما لو أصابت أطفالاً يحصلون على غذاء جيد. أما المجموعة الثانية من الناس الذين يمكن أن يكونوا ضحايا الفقر والجوع أكثر من غيرهم فهي النساء، حيث تقربعض الدراسات البحثية أن أكثر من ستين في المائة من جياع العالم من الإناث. ومع أن المرأة هي المنتج الرئيسي للطعام في معظم أنحاء العالم.. المرأة الريفية العاملة في الزراعة، تعمل في الزراعة، منذ وجدت الزراعة واقتصادها المستقر في المجتمع البشري.. المرأة هي أولى الفلاحات المنتجات للقوت في تاريخ الثورة الزراعية الحديثة.. هي أولى المنتجات في كل تلك البلدان التي امتلكت أنهاراً، وشكّل الاقتصاد الزراعي فيها قاعدة لحضارتها القديمة.. المرأة بدأت الثورة الزراعة الحديثة، وطورت نمطاً معيشياً مستقراً، ونقلت الزراعة من عصا الحفر إلى المحراث الخشبي. مع ذلك فإن البنية الاجتماعية والأعراف السائدة غالباً ما تؤدي إلى حصول المرأة على طعام أقل. وها هي هناك، في الحقل، تعمل وتكدح ويتصبب جبينها عرقاً.
المعادلة الأصعب التي ستبقى وصمة عار في جبين النظام الرأسمالي العالمي فشله في القضاء على الفقر والجوع، حيث أخفق في تحقيق وعوده بحل مشكلة الفقر. ويبدو أن الأساس لأي خطوة عملية للقضاء على الفقر وسوء التغذية هو تحقيق نمو اقتصادي سريع للناس الفقراء، وخاصة في الريف، لأن الاستبيانات تؤكد أن خمسة وسبعين في المائة من فقراء العالم يعيشون في المناطق الريفية، فلا غرابة أن تكون تنمية الريف وتطوير الزراعة فيه العاملين الحاسمين في القضاء على مشكلة الفقر وبالتالي الجوع. وعلى الرغم من أن أقوى آليات محاربة الفقر المدقع والجوع تتمثل في تشجيع مستويات النمو الاقتصادي العام، فإن المد المرتفع لا يكفي بالضرورة لدفع جميع القوارب. من الممكن أن يرتفع متوسط الدخل، لكن إذا كان توزيع الدخل غير عادل فإن استفادة الفقراء ستكون قليلة، ومن ثم تستمر جيوب الفقر. فضلاً عن ذلك، فإن النمو الحقيقي لا يرتبط مباشرة بمفهوم السوق والتجارة الحرة، إذ يتطلب توفير الخدمات الحكومية الأساسية، مثل البنية التحتية والصحة والتعليم والابتكارات التقنية والعلمية. ومن ثم فإن العديد من التوصيات التي قدمت خلال العقدين الماضيين من قبل الولايات المتحدة الأمريكية؛ والتي تدعم قيام حكومات بلدان الجنوب الفقيرة بتخفيض مستويات إنفاقها لكي تفسح المجال للقطاع الخاص، قد أخطأت الهدف. لأن الإنفاق الحكومي الموجه نحو الاستثمار في المجالات المهمة يعد في حد ذاته دعامة حيوية للنمو، وبصفة خاصة إذا تم توجيه تأثيراته نحو أفقر الفقراء في المجتمع.
إن كسب المعركة ضد الفقر لن يفيد الفقراء فحسب، بل سوف يعود بالفائدة على المجتمع. فالفقراء قوة معطلة، كما أنهم شريك هزيل في أي حرفة أو مهنة. واستئصال شأفة الفقر وتحرير الفقراء من هذا الطارق اللجوج سيكون عملاً مثمراً، فلدى دول العالم الموارد والمعرفة لكسب المعركة مع الفقر، لكن يبدو أننا لم نملك الإرادة من أجل ذلك. وبذلك يبقى الفقر معضلة إنسانية تتحمل وزرها جميع حكومات العالم. ويبقى الفقر والجوع وصمة عار في جبين الرأسمالية العالمية أبد الدهر.

عرض مقالات: