تناقلت بعض الصحف المحلية يوم الاحد الموافق 27 ايلول 2020، استغاثة ديوان الرقابة المالية(علىالملأ) وحملت معلومة تقول بأن هناك في العراق أكثر من 390 مؤسسة حكومية لم تقدم حساباتها الختامية لعام 2019 والتي من المفترض ان تقدمها بداية كل عام جديد عن مجمل نشاطها المالي بالتفصيل وبالمستندات الاصولية.
والحق ان الممعن في ملخص تقرير هذا الديوان العريق لا يسعه الا أن يعدها صرخة مدوية في كل ارجاء وادي الرافدين الذي انكفأ على وجهه بفعل استشراء الفساد، فقد اشار التقرير الى انه رغم جنوح الديوان الى الاستقلالية والحياد، الا انه يواجه تحديات كثيرة، منها التأخير في تقديم البيانات في مواعيدها المقررة، أو تقديم البيانات بشكل مخالف للتعليمات، وهذا ما يراه كل متابع للأحداث حيث أن التعمد في تأخير تقديم البيانات هو لغرض إطالة عمر المخالفات وزيادة في نسب إعاقة تنفيذ الديوان لعمله التفتيشي والتدقيقي والرقابي.
ان التقرير كما أوضح الديوان يمثل عرضا لخلاصة الظواهر العامة والتي سبق وأن تم ابلاغها للوزارات والجهات المعنية بتقارير رقابية تفصيلية لغرض وضعه أمام الجهات العليافيها للوقوف عليها وإيجاد السبل الملائمة لمعالجتها.وللأمانة نقول إن ديوان الرقابة المالية قبل العام 2003 كان يقف في مقدمة جميع مؤسسات الدولة (دون استثناء) من حيث الكفاءة والدقة والتفاني والقدرة في اكتشاف الأخطاء والتوجيه لمعالجتها، وإحالة المقصر للعقوبات الانضباطية والفاسد للعقوبات القانونية الجزائية.
وقد كانت الدولة منذ العام 1964، بعد قرارات التأميم، قد دخلت في اعمال تجاوزت أعمال الدولة المعروفة عند حدود التعليم والصحة والنقل، لتصبح دولة الصناعة والزراعة والتجارة، ويدخل قطاعها العام في عمليات الشراء والبيع والتصنيع والمتاجرة وفق ضوابط حكومية رسمية توسع بمقتضاها استخدام المال العام، حتى صار عدد الشركات العامة يناهز ال 300 شركة عملاقة تتعامل بعشرات الملايين من الدنانير العراقية وكان سعر صرف الدينار يساوي 3،3 دولار. والمعروف أن الشركات العامة كانت تجمع بين التعليمات الحكومية الصارمة وبين متطلبات العمل اليومي القائم على الإنتاج والتسويق والبيع،أو الاستيراد وفق المواصفة العراقية والتسعير ومن ثم الخزن والتسويق وتحويل البضائع في جميع القطاعات الحكومية الى أموال نقدية تعمل على اعادة الإنتاج او اعادة الاستيراد، وتقديم الارباح الى الخزينة العامة.
كل هذه العمليات وحجمها الهائل كان يخضع لإشراف وتدقيق عدة جهات يقف على رأسها ديوان الرقابة المالية، فبالإضافة الى التدقيق الداخلي للمنشأة هناك التفتيش أو التدقيق من قبل الوزارة المعنية وفق نظام الجرد المفاجئ، لذلك وبالرغم من التوسع الهائل لأعمال المنشآت، كانت هذه المنشآت تسير وفق تنظيم حكومي مشدد يخضع أخيرا لأعين الأمن الاقتصادي التابع للأمن العامة وكان بمثابة الحارس البوليسي للمال العام.
ان الشركات التجارية والصناعية والعمرانية ،وهنا اخترناها كونها ليست دائرة رسمية موازناتها محدودة بأوجه صرف مقيدة بأعمال روتينية يمكنها تقديم حساباتها الختامية بسهولة وبوقت محدد اقل من القطاع الإنتاجي سيما وان القطاع الانتاجي له مخازن تحتوي على موجودات سلعية قابلة للتسلبم قبل اليوم الأخير من العام، وهي مخازن لابد من جرد موجوداتها قبل اليوم الأول من العام التالي، وهناك سلع لحساب هذه الشركات قيد الإنتاج او قيد الشحن، كل ذلك كان لابد من احتسابه قبل نهاية العام للوصول إلى الحساب الأخير للمنشأة، ثم في ضوء هذا الحساب توضع خطط الاستيراد او الإنتاج للعام القادم ، كل هذه العمليات كانت في الغالب تسوى وتقدر تقديرا صحيحا وتقدم الحسابات الختامية للوزارة في الموعد المحدد، وتقوم الوزارة بدورها بتقديم الحسابات الختامية إلى وزارة المالية،بما يمكن هذه الوزارة من تقديم موازنة الدولة للعام القادم .
ان هذه الأعمال الضخمة في ظل ظروف الحرب والسلم كانت تسير بشكل عام وفقا لتعليمات وزارة المالية وبإشراف عام لديوان الرقابة المالية، ولم يكن هناك ما يسير عكس المطلوب، والسبب يعود الى احترام الموظف لوظيفته واحترام التعليمات والخوف نعم (الخوف او الخشية) من نتائج الوقوع في الخطأ المتعمد او حتى العفوي، لشيوع قوة وهيبة الدولة وسطوتها.والسبب الآخر لم يكن هناك فساد ذمم كما هو حال الفساد اليوم، لقد كانت هناك عوامل كثيرة تمنع الفساد أولها الكوابح الاجتماعية وقيمة الوظيفة الحكومية، كما وأن المسؤولين الكبار في العموم لم يكونوا يقفون أمام توجهات ديوان الرقابة المالية او عيون الأمن الاقتصادي ولم يكونوا قادرين على الوقوف أمام إجراءات الدولة لمعالجة جريمة الفاسد ان وجد او حماية المخطئ.
وان ما ذهب اليه اليوم ديوان الرقابة المالية ما هو الا تعبير عن آلام يعاني منها كل العمل الرسمي والناتج عن الاستهتار بالوظيفة العامة او لجهل اغلب العاملين بأصول وضوابط الصرف الحكومي القائم على أهمية تنفيذ أبواب الميزانيات العامة بمواعيدها المحددة وتسديد مردوداتها بمستندات أصولية قبل حلول العام الجديد أو خلال ايامه الاؤلى ، وان الجهات المتخلفة عن تقديم حساباتها الختامية تشير هي بذاتها الى نفسها وانها بهذا التأخير تؤكد تهمة الفساد وتلحق بنفسها الضرر امام عجز مالي تعانيه الدولة وبشكل غير مسبوق، واخيرا لنعد هذه المناشدة لديوان الرقابة المالية بمثابة جرس الانذار للجميع وصرخة في أذان المسؤولين عامة وحماة الفساد في دوائر الدولة خاصة.