الطبقات في المجتمع العراقي، وكأي مجتمع طبقي في العالم وبدون استثناء، في حالة صراع مستمر. والصراع الطبقي في العراق أخذ عدة أشكال (عنفي بمختلف درجاته وسلمي مستقر أو غير مستقر)، وهذه الأشكال تحددها عدة ظروف، مثل العلاقة بين الطبقات والظروف الاقتصادية والسياسية  والأمنية. قامت وتقوم الطبقات المهيمنة على السلطة عن طريق أحزابها باستغلال هشاشة العلاقات الطائفية والقومية والعشائرية داخل المجتمع وتسخيرها لكسب أصواتها في الانتخابات بالإضافة إلى الوعود الكاذبة من أجل الحفاظ على سلطتها وأموالها المسروقة من قوت الشعب والتستر على فشلها في إدارة الدولة. لذلك ترفض هذه الأحزاب أي تغيير في طبيعة النظام الحالي القائم على المحاصصة الطائفية والاثنية مدّعية بذلك بأنّ النظام قائم على "الديمقراطية التوافقية"، إلاّ أنّها غيّرت خطابها السياسي بعد الحراك الجماهيري الداعي إلى الإصلاح ونبذ المحاصصة والذي دعا إليه الحزب الشيوعي في تمّوز 2011، وأخذت هذه الأحزاب تلعن المحاصصة وتنبذها ولكن عن طريق الإعلام فقط، كما ولجت طريق تغيير أسمائها مدعية القانون والمواطنة والحكمة وغيرها من الأسماء لتغيير نظرة الناس إليها. 

وما أن يحلّ موعد تشكيل الحكومة الجديدة حتى تقوم هذه الأحزاب، رغم خلافاتها في طريقة تقسيم الغنائم، في التوافق على منصب رئيس مجلس الوزراء، ولكن بعد استشارة "الكبار" من خارج حدود العراق والذي هو شرط أساسي، وتقسيم الوزارات ووكلائها ورؤساء الهيئات المستقلة والمدراء العامين ومنهم مدراء المنافذ الحدودية. وأصبح الشارع العراقي يعلم بتفاصيل المحاصصة والتلاعب بعواطف الناس الطائفية والقومية بحيث يقوم رئيس المؤسسة بتعيين كل العاملين لديه من طائفته أو قوميته، ثمّ يأتي دور إصدار قوائم بأسماء وهمية (فضائيين) وتصرف لهم رواتب من ميزانية الدولة، ولكن من يستلمها وأين تذهب؟ وكم هو عددهم؟  كما أنّ معظم التعيينات تأتي عن طريق ابتزاز المواطن ودفع الرشوة، من يستلم الرشوة وأين تذهب؟  معظم مشاريع البنية التحتية متلكئة، أين تذهب الأموال المرصودة لها من ميزانية الدولة؟ ومن يستحوذ عليها؟ وهذا يجري على صرف العملات في البنك المركزي العراقي؟ كلّ هذا أدّى ويؤدّي إلى تعقيد المشاكل التي يغرق فيها البلد من اقتصادية وأمنية وسياسية واجتماعية ولا يوجد في السلطة من يريد حلّها ويتخلى عن الامتيازات الجنونية التي يحصل عليها. البطالة تزداد، الفقر يزداد (34% 13 مليون حسب الإحصائيات الرسمية، أما حسب الاقتصاديين تصل إلى حوالي 40%)، خطورة الوضع الأمني، فحالات الاختطاف والاغتيالات في ازدياد وقصف البعثات والمراكز الثقافية الأجنبية ّ وكذلك المعسكرات ومطار بغداد مستمرّ، الاعتداء على الموظفين، خاصة الأطبّاء منهم، والنزاع العشائري المسلّح مستمرّ.

هذه الأحداث هي التي أوعت الجماهير بكافة طبقاتها وفئاتها الاجتماعية من عمّال وفلاّحين وكسبة، ومن كافة الانتماءات القومية والدينية والطائفية، خاصة الشباب منهم وحفّزتهم للقيام بانتفاضة شعبية عارمة في الأوّل من تشرين الأوّل 2019 ضدّ السلطة وأحزابها والمطالبة بتغيير نظام المحاصصة إلى نظام وطني ديمقراطي تسوده العدالة الاجتماعية وأجبرت حكومة عبد المهدي على الاستقالة، واستمرّت الانتفاضة رغم كل وسائل القمع من قتل واعتقال وتعذيب وخطف وسقط فيها أكثر من 700 شهيد و25 ألف جريح بالإضافة إلى المغيبين. ورفض المنتفضون كلّ الذين أرادت أحزاب السلطة فرضهم لتشكيل حكومة جديدة.

 وأخيرا، وبعد تفاقم وباء كورونا وتناقص أعداد المنتفضين بسببه اتفقت هذه الأحزاب على تعيين مصطفى الكاظمي رئيسا لمجلس الوزراء الذي، هو الآخر، قطع وعودا بتنفيذ مطالب المتظاهرين وأهمّها، محاسبة قتلة المتظاهرين، إجراء انتخابات نيابية مبكرة، تقديم الفاسدين وسرّاق المال العام إلى القضاء، حصر السلاح بيد السلطة. والسؤال الكبير الآن المتداول على الساحة العراقية : ماذا تغيّر بعد حوالي خمسة أشهر من تشكيل الكاظمي لحكومته؟ الاغتيال والخطف والنزاعات مستمرّة ولم يتمّ تقديم أي من القتلة إلى القضاء، قصف البعثات الدبلوماسية والمعسكرات والجديد هو تفجير عربات التحالف الدولي، البطالة والفقر بازدياد، سوق التعيينات وابتزاز المواطنين مستمرّ، لم يتم تقديم أيّ من رؤوس الفساد إلى القضاء سوى الصغار منهم كالسابق، معظم المشاريع متوقفة بسبب العجز المالي المتأتي بالدرجة الأولى من السرقات ثم بسبب انخفاض أسعار النفط وانتشار الكورونا.

إذن لم يستطع الكاظمي وحكومته ورغم التغييرات التي يجريها من فعل أي شيء. أمّا من يدّعي بأنّ الكاظمي يريد أن يقوم بالتغيير ولكن البرلمان الذي تتحكم به أحزاب السلطة هو عائق أمامه، حينها يستطيع أن يصرّح بذلك أمام الشعب وهذا من واجبه كرئيس سلطة تنفيذية، وكذلك إذا ما أراد دعم حقيقي من الجماهير لتنفيذ مطالبها والابتعاد عن محاولات تشتيت المتظاهرين مثلما تحاول أحزاب السلطة.

مما تقدّم، فإنّ أسباب قيام واستمرار الانتفاضة وتصعيدها لا زالت قائمة. لذلك نهيب بكافة المواطنين  ومن كل طبقات وفئات الشعب ومكوناته العرقية والدينية دعم الانتفاضة واستمرارها حتى تحقيق مطالبها العادلة.

عرض مقالات: