في بحوثه الشيقة عن جذور المفردات اللغوية عند مختلف الشعوب يصل الباحث العراقي الجليل علي الشوك-رحمه الله- إلى كلمة فلسفة اليونانية ويتوقف عندها على الشكل التالي: “لدى الاحتكام إلى القواميس في البحث عن أصل كلمة فلسفة نجد أن الكلمة مؤلفة من مقطعين يونانيين فيلو: حب. وسوفا: حكمة. والكلمة تعني باليونانية “حب الحكمة” وكان فيثاغورث -الذي عاش في القرن السادس قبل الميلاد- أول من أطلق على نفسه كلمة فيلسوف أي محب الحكمة، بدلاً من كلمة “سوفوز” حكيم التي لقب بها”.
وقد أشار كتاب من اليونان وفارس إلى أن فيثاغورث كان سوري المولد، بعضهم يقول من صور، والبعض الآخر من صيدا. ثم ذهب إلى مصر وأقام هناك إحدى وعشرين سنة، ثم أسره قمبيز ملك الفرس في القرن السادس قبل الميلاد. وجيء به إلى بابل، وهناك تلقى علومه على يد الكهنة. وبعد بابل أقام في ساموس وهي جزيرة يونانية على مقربة من الساحل التركي الغربي. حيث أنعم عليه بلقب “سوفوز” وبالبابلية “أشيفو”. والظاهر أن اللفظة اليونانية مأخوذة من هذه الكلمة البابلية. وهكذا عادت بضاعتنا إلينا بثوب آخر. فالفلسفة كلمة نصفها يوناني “فيلو” ونصفها الآخر بابلي “أشيفو” وهي مساهمة عادلة والحق يقال.
ودلالة كلمة “أشيفو” البابلية حيّة ما تزال في الاستعمال اليومي عند أهل الشمال السوري في إدلب وريفها في صيغتها المعدّلة: أشوف. أي أرى، أو أشاهد، أو أنظر، أو أتنبأ، أو أتعرّف. وكلمة “أشيفو” البابلية تعني العرّاف، وكان الكاهن البابلي من طائفة “الأشيفو” طبيباً وعرّافاً. وليس من المستبعد والحالة هذه أن يكون “الأشيفو” البابلي سلف الفيلسوف اليوناني. هذا ما وجدته عند أستاذي علي الشوك عن مبنى ومعنى كلمة فلسفة في كتابه “ملامح من التلاقح الحضاري بين الشرق والغرب”. إلا أن كلمة فلسفة لها روافد أخرى أضيفها إلى ما فكر به أستاذي، وإضافة الأفكار من التلميذ على الأستاذ مألوف ومحمود في باب الفلسفة. في البحث عن حل لغز تقديس الحجر في بلاد الشام والجزيرة العربية، نرى أنه عندما كانت الأسر والقبائل تعيش حياة تجوال رعوية في الربع الأخير من الألف الثاني قبل الميلاد، ولم يكن لها موطن تستقر به وتبني بيتاً مخصصاً للعبادة، اعتادت على نصب حجر معين جعلت تحج إليه، وتطوف به سبعة أشواط على شكل دوران في حلقة هرولة تشبه الرقص. وكلمة حج مشتركة في اللغات السامية. فكلمة حجاج العبرية هي نفس كلمة حجاج العربية، وشريعة موسى تستخدم هذه الكلمة بعينها، وذلك عندما تأمر بأداء طقوس الاحتفال. وتعني الكلمة الدوران حول بناء أو مذبح أو حجر، بخطوات مهرولة منتظمة ومدرّبة، تأدية لطقس أو عيد ديني يحتوي على السرور والإنشاد.
وكان إبراهيم عليه السلام أثناء نزوله في مكان ما بصورة مؤقتة يقيم مذبحاً للعبادة والأضاحي في أماكن مختلفة ومناسبات معينة. وعندما كان يعقوب في طريقه إلى آرام رأى رؤيا ذلك السلم المدهش، والذي امتد بين الأرض والسماء، فنصب حجراً هناك وسكب عليه الزيت وسماه بيت “أيل” أي بيت الله. ثم عاد فزار ذلك الحجر بعد عشرين عاماً وسكب عليه الزيت. واسم العلم الذي أعطوه للحجر المنصوب كان “مسفا” في اللغة العبرية أو “صفا” بصورتها العربية. وقد أصبحت “مسفا” فيما بعد أهم مكان للعبادة، ومركزاً حضرياً مقدساً تجتمع إليه العشائر الرعوية. ويبدو أن هذه المقامات المقدسة كانت مبنية على أماكن مرتفعة أو منصات عالية تشرف على محيطها إشرافاً بيّناً.
والآن ما هو مدلول كلمة “مسفا” إنها تترجم عادة إلى برج مراقبة، وهي في اللغات السامية اسم ظرف يشتق من الشيء الذي تحبط به أو تحويه، وهي المكان أو البناية وأصلها “صفا” أو “صفوان” أو “صوَّان” وهي كلمة قديمة معناها حجر. وفي معجم الكتاب المقدس: بطرس اسم يوناني، ومعناه صخرة أو حجر، وكان يسمى سمعان، فلما صار من اتباع السيد المسيح سمي كيفا، وهي كلمة آرامية معناها صخرة، يقابلها في العربية “صفا” أي صخرة، والصخرة باليونانية بيتروس ومنها الكلمة العربية بطرس. وسمعان كلمة عبرية، يقابلها شيمون بالسريانية، التي هي شمعون الصفا.
وحري بنا القول ليس “الصفا” المقام نصباً تذكارياً هو المقدس وحده، بل إن البقعة والدائرة التي يقع فيها مقدسة أيضاً. ولهذا فإن الحج عند المسلمين كالحج عند اليهود، يؤدى حول بناية مثبت فيها حجر مقدس. وكلمة “صفا” في أحد معانيها تعني المراقبة وتحديق النظر عن بعد والتعرف. وكان الشخص الذي ينظر أو يراقب من البرج يسمى “صوفي” في العبرية، أي عارف. وهي وظيفة تعتمد على التحديق ببصر ثاقب لتمييز القادم من بعيد عبر مجاهل الصحراء المترامية الأطراف، وللتحذير من الخطر في الوقت المناسب. وقد تطورت الكلمة في العبرية القديمة لتأخذ معنى الرائي، أو كما يسمى في العبرية “نبيم” أي نبي. وكلمة “مصافي” العبرية تعادل في علم الإملاء والصياغة العربية كلمة المصفي، أي الشخص الذي يحاول اختيار ما هو نقي وسليم وصحيح. ومنها اشتق اسم الآلة “مصفاة” وهي التي تصفي جميع المعطيات، وهكذا يتم تمييز أو فصل الحقيقي عن الزائف. وليس بعيداً عنها كلمة “المصطفى” الذي اصطفاه الله رسولاً للبشر.
ولابد أن نضيف على سبيل الملاحظة أن الكتاب العرب المسلمين قد كتبوا كلمة فلسفة اليونانية بحرف السين بدلاً من حرف الصاد الموجود في العبرية. ويظن أن هذا الشكل للحرف قد أدخله المترجمون الآشوريون من طائفة النساطرة في ترجماتهم إلى العربية. وقبل مجيء مصطفى كمال أتاتورك كان الأتراك يكتبون اسم القديسة “سوفيا” في القسطنطينية-استنبول اليوم -بحرف الصاد. ويعتقد أن كلمة “صوفيا”، “سوفيا” اليونانية هي من نفس اشتقاق الكلمة العبرية، وبالتالي فإن الفكرة السائدة بأن التصوف مأخوذة من الصوف، وهو لبس الفقراء والزهاد، قد تكون صحيحة في بعدها الاجتماعي. أما عن اشتقاقها اللغوي فيمكن أن يكون من الكلمة العبرية “صوفا” التي تفيد معنى المشاهد أو الكاشف أو المتنبئ أو العارف أو الفيلسوف أو الصوفي.

عرض مقالات: