اختفى الوعد الرأسمالي عن المستقبل مع الأزمة المالية العالمية: كانت الفكرة أن الرأسمالية ستؤدي الى الاستقرار الاقتصادي والسياسي والابتكار والكفاءة. لقد تعثرت على أبعد تقدير مع الأزمة المالية العالمية بعد عام 2007، خاصة في جنوب العالم.

فكرة الاستقرار الاقتصادي أصبحت عبثية بسبب الازمات الاقتصادية والمالية المستمرة والعميقة: من الأزمة المصرفية في نيويورك عام 1987 إلى أزمة المكسيك في عام 1994/1995، والأزمة الاسيوية في 1997/1998، والأزمة الروسية 1998/1999، وأزمة الارجنتين 1998ـ2002، وأزمة الدوت كوم 2000ـ2002 في الولايات المتحدة الاميركية حتى الأزمة المالية العالمية لعام 2007 ومايليها.

أثبتت النيوليبرالية أنها غير مستقرة أقتصادياً الى حد كبير وأثبتت عمليات الانقاذ المصرفية وسياسة التقشف نتيجة للأزمة المالية العالمية أنها لا تحظى بشعبية كبيرة وأدت الى أحتجاجات كبيرة في جميع أنحاء العالم، ونتيجة لذلك أنهار مفهوم الاستقرار السياسي في رأسمالية السوق المالية النيوليبرالية، وجرى تحويل دول الرفاهية الكنزية الى سجون عمل معتمدة الى توسيع القطاعات ذات الاجور المنخفضة، تآكل الضمان الاجتماعي وأنتقل الخوف الى البطالة الذي جلب بدوره التضامن الى المجتمع والتي أدت الى أزمة الشرعية والتمثيل من خلال تنفيذ تدابير غير شعبية ومنها صار الاقبال ضعيفاً على الانتخابات وانخفاض شعبية الاحزاب التقليدية، وصعود الاحزاب اليمينية الراديكالية، وأيضاً احزاب يسارية جديدة .

إن تشتت الانظمة الحزبية جعل من الصعب التعامل مع الازمات بكفاءة، ففي اللحظة التي تكون فيها هناك حاجة لقادة أقوياء للاستجابة الى الأزمة، تتعامل بآلات التكتيك ويأتي قادة كارزميون الى السلطة، ترامب في الولايات المتحدة، ومودي في الهند، وبولسونارو في البرازيل، ودوتيرتي في الفلبين، وكاتشينيسكي في بولندا، وأوربان في المجر. أنها ساعة الرجال الاقوياء.

في الوقت نفسه أصبحت الرأسمالية الليبرالية نفسها أستبدادية بشكل متزايد.

الاتفاق المالي في الاتحاد الاوربي،هوالذي يُحدد الولايات على التخفيضات الاجتماعية، وكمثال على ذلك التعامل مع اليونان والذي هو ليس سوى قمة جبل الجليد.

أن الديمقراطية التي تتبع السوق الليبرالي في تراجع،وهو مايعترف به العديد من سياسيي النيوليبرالية بأعتبارها نهاية الرأسمالية الديمقراطية.

ومع ذلك فهذا يثير مسألة الشكل السياسي للرأسمالية،ومسألة لماذا لم تؤد الرأسمالية الحالية الى مزيد من الديمقراطية،ومسألة أشكال الحكم البرجوازي والاشكال الاستبدادية للحكومة في الرأسمالية،ولم يعد في نفس الوقت المتحدثون عن ديمقراطيات السوق الليبرالية يصدقون معتقداتهم.

أن فكرة، أن الرأسمالية أصبحت أقلية وبلوتوقراطية " حكم الأثرياء" ولا يمكن السيطرة عليها بسبب تزايد نفوذ جماعات الضغط وأصحاب الاموال الضخمة وباء كما يراها (آينشتاين)، خاصة في الولايات المتحدة الاميركية، وأن الديمقراطية الاميركية لم يعد لديها أي شئ لتتعلم من الصين، كما يجادل في ذلك فوكوياما، ويتمنى (توماس فريدمان) أن تكون الولايات المتحدة اليوم مثل الصين، وهذا يعني، من أجل أدارة الازمات بكفاءة، ان يكون لها نفس مستوى القوة ونفس موارد سلطة الدولة.

ينظر المتحدثون في النيوليبرالية بحسد وبشكل محسوس الى نظام الحزب الواحد الصيني،والذي يتسبب بدوره في زيادة الاعجاب أو الاعجاب بالخوف في جنوب العالم في ضوء إنجازاته التنموية التي لاجدال فيها،والتي لايمكن إنكارها،بما في ذلك صعود منافس للتكنولوجيا العالية وإنتشال 770 مليون شخص من الفقر المدقع الى فئات الدخل المتوسط.

لقد قوضت القدرة الصينية فكرة القوة الابتكارية الخاصة للرأسمالية الليبرالية في السوق.

وحتى خلال الأزمة الآسيوية، كانت الدول التي عارضت بشدة إجماع واشنطن على فتح السوق هي الاقل تضرراً. وتمكنت الصين من الصعود من الاجور المتدنية في العمل الى منافس التكنولوجيا العالية للولايات المتحدة والغرب بسبب تدخل الدولة القوي، الذي يُرى ويُعترف به قبل كل شئ في جنوب العالم، مؤدياً الى أزمة عقيدة نيوليبرالية جديدة، لاتزال تُهيمن على الاقتصاد الغربي.

ولكن حتى في الغرب نفسه،تضاءل الايمان بالقوة الابتكارية للاسواق الرأسمالية،على الاقل نتيجة النشرات المؤثرة مثل "الدولة الريادية" التي أعدتها الخبيرة الاقتصادية (ماريانا مازوكاتو)،التي أظهرت أن جميع الابتكارات في الرأسمالية الرقمية تعتمد في نهاية المطاف على الاستثمارات العامة (البحثية)التي كانت بعد ذلك براءة إختراع فقط من قبل (سيليكون فالي) وأستغلالها من قبل رأس المال المالي.

على خلفية هذه التطورات، تعيش الرأسمالية اليوم أزمة أيدولوجية عميقة، وبدا لفترة طويلة أن عدم الرضا عن رأسمالية الأزمة عظيماً، ولكن لم تكن هناك بعد فكرة كيف يمكن أن يكون الامر خلاف ذلك.

كتب (أكسل هونت) قبل بضع سنوات "المجتمعات التي نعيش فيها،تتميز بنزاع مزعج للغاية ويصعب تفسيره من ناحية، أزداد القلق بشأن الوضع الاجتماعي والاقتصادي،وحَولَ الوضع الاقتصادي وظروف العمل بشكل كبير في العقود الماضية".

ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية لم يُصدم الكثير من الناس مما يحصل من العواقب الاجتماعية والسياسية لاقتصاد السوق العالمي للرأسمالية.

من ناحية أخرى كان هناك غضب جماعي لعدم وجود أي أحساس معياري للانتقادات المقدمة وبقيت صامتة بشكل خاص ويبدو كما أن الامر هو نقص في الانزعاج المتفشي في القدرة على التفكير وراء ما هو موجود وتخيل حالة أجتماعية تتجاوز الرأسمالية.ومع ذلك أعادت الأزمة المالية العالمية مسألة البدائل الاساسية لرأسمالية السوق المالية النيوليبرالية الحالية الى جدول الاعمال.

في جميع أنحاء الغرب،ينقسم المشهد السياسي الآن الى جانب وجهات النظر الايديولوجية العالمية الحادة،تتحدى الليبرالية الجديدة المتآكلة للمركز من قبل القوى الاستبدادية القومية والفاشية من اليمين،والاشتراكي الجديد من اليسار.

في الولايات المتحدة،على سبيل المثال،يتجسد هذا الاستقطاب من خلال الليبرالية الحزبية الجديدة لهيلاري كلينتون أو جيب بوش أو جو بايدن،والتي تتحدى ترامب (المحافظ الاستبدادي) وساندرز(الاشتراكية الجديدة).

ويعبر اليسار عن عدم الرضا عن الوضع الراهن بشكل متزايد بلغة (الاشتراكية )،التي تزدهر الآن في الغرب،خاصة بين الاجيال الشابة، في البلدان التي تمر بأزمات.

على سبيل المثال صوتت الشبيبة،التي تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عاماً في ديسمبر 2019 بهذه الطريقة في الانتخابات البرلمانية في بريطانيا، لحزب العمال البريطاني،في الوقت نفسه فأن المرشح (الاشتراكي الديمقراطي) بيرني ساندرز في الولايات المتحدة دُعمَ بشكل كبير من السكان وخاصة الشباب،الذين يفضلون الاشتراكية على الرأسمالية،وتشهد الاشتراكية نهضة أيدولوجية ملموسة للغاية في ألمانيا من خلال المناقشات في عدة مسائل،منها مايخص أرباح العقارات الفاحش .

نعم هناك ترحيب بعودة (الاشتركية) في المستقبل وبشكل صريح وعلى الاقل بمعنى دولة أعادة توزيع أجتماعية ديمقراطية قوية.

بأختصار نحن نشهد اليوم نهاية قصص (نهاية التأريخ) والليبرالية في أزمة أعادت مضاداتها :القومية والفاشية.

ولهذا فالرجوع الى الاشتراكية ليست مفاجأة،فالرأسمالية تجد نفسها في أعمق أزمة منذ عام 1930،والاكثر من ذلك،في تاريخ التصنيع القصير الذي دام 250 عاماً،جعلت الرأسمالية، البشرية على شفا أزمة حضارة، يمكن أن تعني نهاية البشرية، وهذا بالضبط ماتوقعه (بيري اندرسون) عندما كتب عام 1993:"أذا ما بدأ النموذج الليبرالي في التنفيذ،فلا يمكن إستبعاد إعادة تأهيل الاشتراكية في المستقبل".

أن الافراط في الليبرالية لايؤدي حتماً الى حفاري القبور للرأسمالية،لكنهم يجبرون المجتمع على الدفاع عن نفسه من أن تدمره الليبرالية وقوى السوق التي تطلق العنان لها.

الليبرالية ليست لها أجابات لأزمة الرأسمالية الكبرى وأبعادها الستةـ أزمة الاقتصاد والتماسك الاجتماعي والتكاثر الاجتماعي والديمقراطية، النظام العالمي والبيئة / المناخ.على العكس من ذلك،كلما كبرت أزمة هذا النظام،كلما كانت الإجابات أصغر وأقل بصيرة.

عام 1994 حذرنا المؤرخ البريطاني أيريك هوبسباوم،من أن البديل لمجتمع متغير هو هزيمة المرض وتصحيح أخطاء النظام.

عرض مقالات: