خلال الأشهر الاولى من عام 1955 وصلت الى سجن بعقوبة الانفرادي وكان للتو قد أنهى السجناء هناك اضرابا عن الطعام، مطالبين بتنفيذ مطالبهم المشروعة لتأمين مستلزمات الحياة اليومية والكف عن المعاملة السيئة للسجناء من قبل ادارة السجن، وقد تحققت تلك المطالب بفضل العرائض والمذكرات وتنظيم المظاهرات لعوائل السجناء، التي كان حزبنا الشيوعي العراقي ينظمها ويشرف عليها.

لقد كان السجن عبارة عن غرف صغيرة على جانبين تمتد طولاً على مسافة سبعين مترا وفي وسطها قاعة، ويفصل الجانبين ممر ضيق.

تم استقبالي  من قبل رفاقي السجناء ومن  ثم انفرد بي الرفيقان  المحاميان الشيوعيان،  الشهيد توفيق منير والفقيد عبد الستار ناجي  كي يعرفا  سبب حكمي ومدته،  اخبرتهما أنني  محكوم بستة اشهر،  اثر عثور الشرطة اثناء مداهمة البيت على كتاب تأريخ الحزب الشيوعي البلشفي ورواية الفولاذ سقيناه،  وبينت لهما أنني  أنهيت من مدة محكومتي ثلاثة أشهر في موقف النجف،  فقالوا اذًا ينبغي استئناف الدعوى،  قلت لهم ،  لم يبق وقت طويل لإنهاء محكوميتي،  إلا أنهم  اصروا على الاستئناف، وهكذا  قدموا طلبا بهذا الأمر،  وبعد فترة وجيزة  استدعيت الى محكمة الاستئناف في الحلة إذ تطوع للدفاع عني ضمن لجنة الدفاع عن العدالة،  المحاميان موسى صبار وجواد عبد الحسين  الى جانب الدفاع الذي أعده لي الشهيد توفيق منير، وبهذا قررت محكمة استئناف الحلة الغاء الحكم واطلاق سراحي،  إلا أن شرطة النجف لم  تلتزم بذلك ولم تطلق سراحي بل ارسلتني الى معسكر الإعتقال في الشعيبة كجندي مكلف كوني طالبا مفصولا، وصلت  المعسكر الذي  يضم أكثر من مائتي  طالب مفصولين بسبب نشاطهم السياسي ضمن صفوف اتحاد الطلبة أو أنصار السلام أو ممن انتهت محكومياتهم في مناطق اخرى،  وكان الجميع محسوبين على الحزب الشيوعي العراقي،  عدا طالب واحد كانت  ميوله  قومية وهو معاذ عبد الرحيم من الناصرية،  والذي كان مهذبا ومنسجما معنا.

طلب آمر المعسكر مني الحضور بعد ان أمضيت فترة لم تتجاوز شهرا، وقال لي، أن محكمة التمييز أعادت الحكم عليك، وبالتالي عليك ان تدخل السجن مرة اخرى لإنهاء الحكم، قُلت: انا سياسي وعليكم نقلي الى السجن الذي خرجت منهُ، قال لا يمكن ذلك فأن قوانين الجيش تقضي هكذا، بأن أقل من سنة لابد ان تقضيها بضيافتنا.

كان السجن عبارة عن قبو تحت الأرض فيه فتحات صغيرة للتهوية، وضم السجن حوالي 15 موقوفاً بتهمة الانتساب للحزب الشيوعي العراقي، بقضية كانت معروفة آنذاك باسم قضية عريف رمضان وكانوا ينتظرون محاكمتهم وقد تحدثت مع عريف رمضان من اجل سحب اعترافاته.

بعد انتهاء مدة الحكم تقرر هروبي من المعسكر، وفعلاً هربت أنا والرفيق حسين العامل من معسكر الاعتقال في " الشعيبة في البصرة " حيث توجهنا بعد ذلك الى بغداد، وحال وصولي الى هناك ارتبطت بالحزب ضمن خلية مكونة من ثلاثة رفاق، سكنت مع الرفيق عباس الطباطبائي في بيت عائلة مسيحية كادحة، وأوجد لي الرفاق عملا كمحاسب في معمل حدادة في ساحة السباع.

قبل الثورة تكررت المواعيد واللقاءات الخاطفة بالرفيق سكرتير خليتنا، وفي  صباح يوم 14 تموز استيقظت كعادتي لتهيئة الفطور المكون من الخبز والشاي وفتحت الراديو وإذا بي اسمع اناشيد وأغاني ترددها اذاعة القاهرة وصوت العرب ثم  تلاوة  قائمة بإحالة ضباط كبار على التقاعد وبيان الثورة الذي اعلن قيام الجمهورية العراقية ونداء الذهاب الى حيث مقر العائلة الحاكمة  في قصر الرحاب،  ركبت  دراجتي "الماتورسكل" حيث  كنا نستخدمها في تنقلاتنا،  وفي طريقي  الى هناك شاهدت الناس على أسطح المنازل يتبادلون الأحاديث وتجمعات صغيرة هنا وهناك،  عبرت جسر مود "الاحرار حالياً" حيث شاهدت تجمعات قرب تمثال مود، و لم انتبه الى الإذاعة،  وأخيرا  وصلت قصر الرحاب وشاهدت الدخان في الطابق العلوي من القصر،  وهنا  لا يمكن وصف مشاعر الفرح،  الى جانب هذا انتابتني حالة من  الذهول وعدم التركيز،  اقتربت من احد ضابط الصف وكان حاملاً  رشاشته بيده وسألته،  هل أنها ثورة ؟  قال نعم أنها ثورة، قلت له هل جماعتنا هم من فجروها؟ أجاب نعم جماعتنا، تساءلت مع نفسي، في طريق عودتي، من هم جماعتنا؟.

 لم اذهب الى البيت  يومها ، إلا اني  توجهت الى ساحة السباع حيث يتمركز العمال، ولقناعتي بأن  الثورة تريد دعما جماهيريا، وهناك وجدت في الساحة عددا من  الرفاق كان من بينهم الشهيد علي الوتار وكليبان صالح وبطرس ماربين،  وقد تعرفت عليهم في السجون، وهم  يعبؤون ويحرضون العمال على التظاهر، تحركت جماهير ساحة السباع باتجاه شارع الشيخ عمر وكانت الجماهير تنضم اليها  تباعاً،  ثم توجهت الى شارع غازي " الكفاح حالياً " لتلتحم بمظاهرة أخرى،  والمدهش ان الشوارع امتلأت بالشعارات  التي تجسد ما تضمنه بيان الحزب قبل الثورة،  حيث التأكيد على الجبهة والاتحاد الفدرالي،  الخروج من ميثاق حلف  بغداد،  وإطلاق الحريات الديمقراطية،  اطلاق سراح السجناء السياسيين،  وهذا ما  تضمنه بيان 12 تموز الذي اطلعني على مضمونه الرفيق علي الوتار،  و لم يتسن لي استلامه، كما أن بيان الحزب الذي صدر  يوم الثورة دعا الى دعم الثورة و الى تأليف لجان الدفاع عن الجمهورية،  وتنظيم فصائل المقاومة،  كما بعث برقيات التأييد،  والى ضرورة تجنب ابراز شعارات متطرفة تمجد هذا الزعيم او ذاك،  ثم  توجهت المظاهرة الى شارع الملك فيصل " الوثبة " وشارع الرشيد باتجاه وزارة الدفاع وهناك بدأ الفرز الواضح  للشعارات يظهر ومنذ اليوم الأول، فالجماهير تهتف " اتحاد فدرالي صداقة سوفيتية"  ومجاميع صغيرة تهتف وحدة وحدة لا شرقية ولا غربية وترفع صور جمال عبد الناصر.

قبل إعلان منع التجول توجهت الى بيت الرفيق سكرتير الخلية لاستلام التوجيهات إلا أنهُ لم يكن موجودا في البيت حينها، فقمت بانتظاره حتى عودته حيث أخبرني بالكثير من التطورات وموقف الحزب، وحدثني عن برقية التهنئة التي وجهها الرفيق سكرتير الحزب الى مجلس السيادة ورئيس الوزراء وبيان الحزب وكذلك بيان الحزب في 12 تموز، ثم طلب مني المبيت عندهم لسريان منع التجول.

لقد توسعت قاعدة الحزب الى حد كبير بدرجة لم يكن كادر الحزب قادرا على استيعاب الرفاق الجدد الذين انتموا اليه، لذلك أصبح المرشحون قبل الثورة أعضاء.  بعد فترة من الزمن تم ترحيلي من تنظيم الأسواق التجارية الى تنظيم الميكانيك،  كعضو لجنة تابعة اصبحت فيما بعد  متفرعة وقد  وصل عدد أعضاء الخلية الواحدة  مثلاً  في ساحة السباع الى خمسين رفيقا، حيث تقوم بعقد اجتماعاتها  على سطح بعض  البنايات،  كما بدأ  تشكيل النقابات والإتحادات والروابط  ولجان الدفاع عن الجمهورية وفصائل المقاومة الشعبية وتبوأ رفاقنا المواقع القيادية فيها،  ونتيجة لزيادة اعداد طالبي الانتماء للحزب  أوقف الحزب الترشيح لعضويته،  لكي لا يغرق الحزب بالفئات والشرائح من غير العمال والفلاحين .

كان حزبنا من أبرز المساهمين الاساسيين في التهيئة لإندلاع ثورة 14 تموز المجيدة وعمل على انجاحها بكل الوسائل، وهيَأ الأجواء المناسبة لها من خلال نشاطه في جبهة الاتحاد الوطني التي كانت عبارة عن تحالف سياسي وطني عراقي تأسس في عام 1956، الى جانب حركة الضباط الاحرار الجريئة.

لقد تحقق في السنوات الاولى للثورة الكثير من الانجازات على كافة الاصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، كان من ابرزها صدور قانون العمل وقانون الاحوال المدنية الذي يعد من أكثر القوانين تطورا على صعيد المنطقة،  حيث أنصف المرأة،  الى جانب قانون رقم 80 لعام 1961 والذي استعيدت بموجبه معظم الأراضي العراقية غير المستثمرة التي كانت تحت امتياز الشركات النفطية ،  أضافة للمنجزات الآخرى التي تمس حياة الفقراء والمعدمين حيث تم توزيع الاراضي عليهم مجاناً وفي مدن خططت بشكل عصري بدلاً من الصرائف والأكواخ البائسة التي كانوا  يسكنوها، إلا أن الدوائر الاستعمارية واجهزة مخابراتها وعملاءها من القوى الرجعية التي خانت الوطن،  تمكنوا من اسقاط الثورة في 8 شباط الأسود عام 1963 وتسليمها الى عملائهم الذين اعلنوا بلسان رئيسهم علي صالح السعدي  بانهم جاءوا بقطار امريكي وبدأت حمامات الدم منذ ذلك التاريخ والى يومنا هذا.

المجد والخلود لشهداء ثورة تموز الخالدة والخزي والعار لعملاء الاستعمار والصهيونية.

عرض مقالات: