يدرك اخوان السودان بعد الثورة ان الموقع الوحيد الذي تبقى لهم الى حين، هو مفاصل جهاز الدولة. والذي سيفقدونه بمجرد تكوين الحكم الولائي. لكن  مادون ذلك فقد فشلوا في  ان يكونوا جزء من الحراك السياسي الذي نهض ضدهم. وهذا من طبيعة الاشياء. فالمكون العسكري لم يقبل بتعاونهم لتقاطعات اقليمية ترفض وجودهم في المستقبل.كما ان المحاولات التي بذلها الصادق المهدي لادخالهم الى المشهد السياسي من الابواب الخلفية او الامامية كلها اصطدمت برفض المكونات الاخرى في التحالف الحاكم .و لم تنجح محاولات قطر بطرقها الخاصة ومنها المال في ادخال بعض عناصرهم الى كابينة تجمع المهنيين ايقونة الثورة. وارتسمت الحقيقة المرة امام الجماعة بانها ومثلما كسبت كل شيء عن طريق الاستحواذ على السلطة هاهي تفقد حتى  وجودها نفسه بفقدان تلك السلطة.وبالتالي قد سدت  في وجهها كل  الطرق وفتحت امامها فقط بوابة التنظيم العالمي المطلة  على شواطي (البسفور الدردنيل). لتفقد بذلك  خصوصيتها كحركة اسلامية سودانية تنطلق في التعاطي مع الشان الاسلامي من مواقعها المستقلة.

الاخوان والسلطة:

العزلة التي واجهتها جماعة الاخوان في السودان لم تكن على المستوى السياسي فحسب، والا كانت قد  تغلبت عليها كما حدث لها عقب ثورة ابريل عام .1985 حين رفضتها كل الكتل السياسية ولكنها اثرت على المجال السياسي من خلال وجودها المعتبر في الطبقة الوسطى وتاثيرها على الراي العام في السنين الاخيرة من عهد نميري. حين جعلت التوجه الاسلامي الداعي لتطبيق الشريعة الاسلامية فوراً اتجاهاً عاماً في المجتمع  وابتزت به التيارات الاسلامية الاخرى المترددة. ولكن الجماعة تواجه هذه المرة رفضاً شعبياً عبرت عنه شعارت ثورة (كانون)  التي قاومت حكمهم بالذات. لذلك تكون العودة امامهم  للتاثير في الواقع السياسي في القريب العاجل صعبة، ان لم تكن مستحيلة.

والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو لماذا  خرجت الحركة الاسلامية السودانية بعد 30 عاماً من السيطرة الشاملة على الحياة العامة في السودان  من غير اي مناصرة شعبية تستند عليها في المشاركة في السلطة ناهيك عن الانفراد بها؟.

الاجابة على هذا السؤال لاتكمن في الممارسة السياسية الفاشلة لها في الحكم التي دمرت الدولة الوطنية وقسمتها  ورهنت ارادتها الوطنية وكبلتها بالعقوبات الدولية والتنازلات الاقليمية فحسب ، ولكن تعود ايضاً الى فلسفة الحكم التي اعتمدها حسن الترابي في اعداد تنظيم سياسي يستهدف السلطة بشعارت اسلامية، مختلفاً بذلك مع نهج الدعوة الذي سار عليه مناصرو التيار العالمي للاخوان المسلمين بقيادة صادق عبد الله عبد الماجد والحبر يوسف نور الدائم. مستنداً على شعار ( ان الله يزع بالسلطان مالا يزع بالقران). بمعنى ان السلطة السياسية اهم لنصرة المشروع الاسلامي من الدعوة.

في خضم هذا الخلاف وسط الجماعة اواخر الخمسينات وبداية الستينات من القرن المنصرم وقعت تحولات سياسية في البلاد عززت روية الترابي ودفعت بغالبية اعضاء التنظيم الى حظيرته. حيث وصل الى السلطة عام 1969ضباط صغار في الرتب العسكرية يتبنون افكار اليسار، فقاموا بتطهير الخدمة العامة ضمن اجراءات ثورية كثيرة  من نفوذ اليمين. وبما ان هذا التوجه كانت الرياض تناصبه العداء فقد فتحت منافذ الهجرة امام ضحايا الصالح العام  ايام الفورة النفطية في الخليج والسعودية اواسط السبعينات.

كان ذلك سبباً في تدفق المال الذي جعل الجماعة تعيش اوضاعاً تنظيمية ودعوية مريحة. خاصة وان الترابي بعد  خمسة اوستة سنوات كان قد صالح النظام السياسي الذي شهد هو الاخر تحولات مهمة بعد طرد الشيوعيين ومجموعات القوميين العرب والتكنوقراط فانعطف نحو اليمين. وتفرغ الترابي لبناء تنظيمه وسط طلاب الثانويات والجامعات بهدف السيطرة على الطبقة الوسطى. وخلق زخماً كبيراً للتوجه الاسلامي. ساعده في ذلك ظهور الثورة الاسلامية الايرانية. وقد اثمرت نتائج ذلك النشاط في دفع النظام نفسه الى اعلان  الشريعة الاسلامية بعد 6 سنوات من دخول الاسلاميين للسلطة. وحين هم النميري بطردالجماعة بداية عام 1985  استطاعت المشاركة في ثورة ابريل 1985  عبر بوابات  بعض النقابات التي قادت الحراك مثل نقابة الاطباء، التي جاء منها رئيس الوزراء الجزولي دفع الله المعروف بتوجهه الاسلامي.  كما ظهرت تاثيرات الحركة الكبيرة على الجيش السوداني من خلال تولي احد المناصرين لها رئاسة المجلس العسكري الذي استلم السلطة عقب الاطاحة بالنميري، وهو المشير عبد الرحمن سوار الذهب الرئيس السابق لمنظمة الدعوة الاسلامية. وظهر لاحقاً ان من اوكلت لهم مهمة تصفية اثار النظام السابق كان من ضمنهم ضباط موالين للجماعة على راسهم  العميد وقتها عمر حسن احمد البشير الذي تم تلكيفه بتصفية جهاز امن النميري، وقام بتوظيف المعلومات التي حصل عليها في التدبير لانقلاب على السلطة بعد 4 سنوات لصالح الجماعة. وبقية القصة معروفة للجميع.

كان الترابي قد مهد لكل  هذا التغيير بتحويل الحركة من تنظيم دعوي يتبادل اعضاوه كتيبات سيد قطب والمودودي وحسن البنا الى كيان سساسي يستهدف السلطة التي ظفر بها بعد اقل من ربع قرن من مفاصلته مع التيار الدعوي التقليدي،  باصدار كراستين صغيرتين احداهما بعوان (منهجية التشريع في الاسلام) والاخر بعنوان (تجديد اصول الفقه). قال فيهما ان الفقه الاسلامي القديم يتوقف في حدود المعاملات الشخصية والعبادات والشعائر ولايعين المسلم على ادارة الاقتصاد والسياسة. وانه يحتاج الى تجديد في هذه الناحية، وليس احياء كما ذهب الى ذلك ائمة من قبله منهم الغزالي. وكان يسخر من علماء السنة والجماعة القدامى والمحدثين، ويسمي بعضهم بعلماء (الانابيش) الذين ينبشون في الماضي. ويطلق على البعض الاخر علماء الحيض والنفاس. وبذلك اصبحت للحركة الاسلامية السودانية ممارسة تميزها عن الاخوان في كل العالم، ولكن ليس لها فقه كماسنبين لاحقاً. من جانبها رات السعودية ان وجود هكذا حركة يساعدها في محاصرة اليسار الذي لامس السلطة في مستهل السبعينات. ولاينافسها في الدعوة للاسلام الذي نصبت نفسها حامية وناشرة له من خلال المذهب الوهابي. فكان الدعم السعودي السخي الذي وجدته الحركة الاسلامية السودانية. فالكتابين المشار اليهما احدهما تحمل تكلفة طباعته بنك فيصل الاسلامي. كما ظهر ان قيادات التنظيم من اكبر المساهمين في البنك نفسه. وبالاستناد اليهم تحصل على اعفاء من الضرائب منذعام 1983 كما اوضحت دراسة اقتصادية اعدها الحزب الشيوعي عقب انتفاضة ابريل.

اهتمام الجماعة بالسياسة كان على حساب الدعوة. وذلك بتخطيط من الترابي الذي يراء ان الفقه الاسلامي القديم غير مفيد لتقديم المشروع الاسلامي بشكل معاصر. ولابد من  اجتهادات جديدة تراعي حوجة العصر. وبما ان هذه المهمة لم تجد من يتصدى لها غير الترابي نفسه من خلال كتابات مميزة مثل (الايمان واثره على النفس وتجديد اصول الفقه والاحكام السلطانية والحركة الاسلامية المنهج الكسب والتطور)، بل ربما لايوجد بين تلاميذه من يشاركه هذه القناعات غير نفر قليل مثل المحبوب عبد السلام. وكانت النتيجة انكشاف ظهر الحركة من الناحية الايديولوجية. فاصبحت تحتطب في السياسة وفق اجتهادات ينقصها التاصيل المنهجي والفقهي لعدم وجود دراست تربط بين اسباب الارض واسباب السماء. وهذه مشكلة تعاني منها كل التيارت الفكرية والسياسية في السودان، والمكتبة السودانية ربما تعتبر من افقر المكتبات العربية والاسلامية. وقد اعتمدت الحركات السياسية يمينها على يسارها على اجتهادات فكرية تاتي من خارج الحدود مثل كتابات سمير امين وعبد الله العروي ومحمد عابد الجابري وفاطمة المرنيسي  وغيرهم.

لذلك ظهرت كوادر الحركة الاسلامية بلاميزات جاذبة في المجتمع غير صولجان السلطة وهيبتها ورياشها واحتمالات فسادها. ولم يلتزموا حتى بموجهات الدين التي يقف عندها المسلم العادي. فظهرت للناس مفارقتهم لقواعد وموجهات الاسلام قبل مفارقتهم لدواعي الحكم الرشيد. وحين خرجت المظاهرات تردد( سلمية سلمية ضد الحرامية) قال احد اكبر قيادات الحركة الاسلامية (كيف يتم وصفنا نحن اصحاب الفكر الرسالي بالحرامية). ومن قبله قال الرجل الثاني بعد الترابي وهو الراحل يس عمر الامام( انا اتردد في الذهاب الى مسجد الحي حتى لاتلاحقني الاسئلة من الناس ، و انني اخجل من  ان ادعو احفادي الى تنظيم الاخوان المسلمين). ويعترف الترابي نفسه في كتابه (الحركة الاسلامية المنهج الكسب والتطور)  بعدم قدرتهم على اختراق قواعد المجتمع والتاثير على الكيانات القبلية والطرق الصوفية الكبيرة, وان تاثيرهم انحصر وسط الطبقة الوسطى وجماهير المدن. . كانت الجماعة تتغطى بالسلطة وحين انكشف امرها اتضح ان لاشيء تحت القبة كما يقول المثل السوداني وذهبت ريحهم بذهاب السلطة ولن يعودوا الى  الواقع السوداني الا وفق اجندة اقليمية ودولية ومدعومون من التنظيم العالمي للاخوان ، ذلك الطريق الذي رفضوا السير فيه في بداية مسيرتهم.

عرض مقالات: