عام باكمله تسرب من عمر  الفترة الانتقالية في السودان المقرر لها ثلاثة اعوام، والاوضاع تراوح مكانها، وكانما لم يحدث اي تغيير جدي في تركيبة السلطة. حيث لازالت الازمة الاقتصادية والمعيشية تمسك بخناق الجماهير الشعبية، والاجهزة الامنية والشرطية لا تتحمس للتعاون مع الحكومة  الجديدة، وعناصر النظام القديم تتحكم في مفاصل الجهاز الاداري،  ويوظفون الازمات التي تسببوا في خلقها وتعهدوها بالرعاية، للانقضاض على السلطة. وهذه تبدو مكبلة بعدة قيود، منها الوثيقة الدستورية التي تأسس عليها الوضع القائم، الى جانب  محاولة خرقها المستمرة من قبل المكون العسكري، مما يخلق صعوبات جدية امام عملية الانتقال الى واقع يضع الاسس المطلوبة لوضع ديمقراطي.

خطوات تنظيم

العملية السياسية مابعد الثورة العظيمة بدأت بخطوات تنظيم عسكرية. وبدلاً من ان تعلن  قوى الثورة نفسها حكومة للبلاد عقب سقوط النظام، اذا بها تنتظر حتى تقوم لجنة البشير الامنية باعلان نفسها مجلساً عسكرياً استولى على السلطة في انقلاب، ثم ذهبت اليهم قوى الحرية والتغيير، التحالف الذي قاد الثورة لتفاوضهم حول مستقبل الحكم. مما اضفى على العساكر شرعية غير مستحقة، جعلتهم شركاء في الحكم. تلك الوضعية باركها الاتحاد الافريقي وانظمة عالمية واقليمية، كانت ترعى عملية الهبوط الناعم  قبل الثورة بايام، وهي عملية هدفت الى ايجاد مخرج للبشير بالمحافظة على طبيعة نظامه، مع توسيع قاعدته الاجتماعية والسياسية بجلب تكوينات سياسية معارضة، كانت قد انتظمت سلفاً في كيان ظهر باسم  "نداء السودان" يضم احزابا شقت عصا الطاعة على تحالف المعارضة، المعروف باسم "قوى الاجماع الوطني". واعلنت استراتيجية جديدة في التعامل مع حكومة الانقاذ تقوم على الحوار، والبعض منها اعلن موافقته على المشاركة في انتخابات 2020، التي قطع الاعداد لها اشواطاً داخل اروقة  الحزب الحاكم وقتها. وقد عارضت اقسام منه ترشيح البشير لدروة جديدة، بسبب تعارضها مع الدستور. لكن تم تعديل الدستور نفسه من اجل هذه الغاية، وعادت تلك العناصر وسحبت اعتراضها بعد ممارسة ضغوط عليها.

لكن الجماهير وضعت حداً لهذا العبث بالخروج الى الشوارع  في عدة مدن يوم 19 كانون الاول 2019، فاضطرت تلك الاقسام من المعارضة الى الالتحاق بالثورة في ايامها الاخيرة، وهي تضمر التراجع عنها والتحالف مع النظام المباد متى ما سنحت الفرصة.

واتفقت قوى الحرية والتغيير على ان تطلب من العسكر تسليم السلطة تجاوباً مع ارادة الجماهير وقرار الاتحاد الافريقي، الذي اعطى المجلس العسكري مدة 3 اشهر يقوم بعدها بتسليم السلطة لحكومة مدنية. ولكن عند اللقاء مع العسكريين تم تغييب ممثل الحزب الشيوعي عن عمد، واتفق الحضور مع العساكر على الصيغة التي جعلت لهم اليد الطولى في مجريات الامور.

تم اعداد الوثيقة الدستورية التي سحبت كل ادوات السلطة ممثلة في الاجهزة الامنية والشرطية والقوات المسلحة من  الحكومة التنفيذية المدنية، ووضعتها تحت اشراف المكون العسكري في مجلس السيادة. وقد اعترض الحزب الشيوعي في اول بيان له على هذا الوضع، كما اشار الى ان المكون العسكري لا يمثل الجيش، وان الضباط الممثلين للقوات المسلحة في المجلس يحتلون  مواقع لا وجود لها في المؤسسة العسكرية، مثل مفتش عام الجيش ورئيس اللجنة السياسية،  وهي مناصب اصطنعها البشير لاحكام سيطرته على تلك المؤسسة، ويجب ان يتم استبدالهم بممثلين لاقسام الجيش واسلحته المعروفة. ولكن هذا الاعتراض لم تتوقف عنده بقية ممثلي التحالف المعارض. ويبدو انهم كانوا على عجلة من امرهم تحت الضغوط الدولية والاقليمية، خاصة من قبل الاتحاد الافريقي الذي هندس ممثلوه كل هذه اللعبة، وباركتها دول عربية معروفة.

فخرجت للوجود سلطة مناصفة بين العسكريين والمدنيين شكلاً، ومن حيث المضمون هي سلطة عسكرية يتحكم فيها جنرالات الرئيس المخلوع. وكان من الطبيعي ان تحافظ على تمكين عناصر الانقاذ، خاصة في الولايات التي يسيطر عليها حكام عسكريين.

البحث عن حاضنة سياسية

لكن المكون العسكري الذي يتولى رئاسة الفترة الاولى في مجلس السيادة، شرع منذ البداية في خرق الوثيقة الدستورية على علاتها. وتغوّل على سلطات مجلس الوزراء، واستولى بوضع اليد على ملف السلام واخذ يتفاوض مع الحركات المسلحة، تحت رعاية عاصمة دولة جنوب السودان وبتمويل من الاتحاد الافريقي. فالوثيقة الدستورية قد حددت مفوضية للسلام تحت الاشراف الكامل لمجلس الوزراء. وبدلاً عنها شكل مجلس السيادة المجلس الاعلى للسلام، برئاسة السيد محمد حمدان حميدتي قائد مليشيا الدعم السريع، الذي نصب نفسه نائبا لرئيس مجلس السيادة، وهو منصب لم  تنص عليه الوثيقة الدستورية.

وقبلت الحركات المسلحة هذا الوضع الغريب رغم المرارات التي بينها وبين قائد هذه القوى، التي ارتكبت فظائع في اقليم دارفور والاقاليم المشتعلة الاخرى. و بدلاً عن الحوار بين شركاء الثورة من حكومة ومكونات مسلحة عارضت النظام  كلها  واسقطته، حول كيفية دفع استحقاقات السلام وازالة الاوضاع التنموية الشائهة التي قادت الى الحرب، شرعت الحركات المسلحة  في  مفاوضات سلام تمت على نسق المفاوضات التي جرت مع النظام السابق، بما فيها من محاصصات واقتسام للسلطة والثروة، مع ان طرفي التفاوض يفترض فيهم انهم  شركاء في التغيير. من جانبها تعتقد الحركات المسلحة ان قوى الحرية والتغيير، التي هم مشاركون فيها من خلال تمثيلهم في احد مكوناتها وهو "نداء السودان"، قد استولت على السلطة دون وضع اعتبار لها، من خلال تكوين مجلسي السيادة والوزراء. مع ان هذا وضع يمكن  اصلاحه من غير الدخول في مفاوضات، بتوسيع مواعين السلطة الانتقالية باتفاق الطرفين. ولكن يبدو انها قد وجدت وضعا افضل في ظل رعاية العساكر. اما المكون العسكري المبغوض من قوى الثورة في الداخل، لاسباب اهمها انهم كانوا الاداة  التي اعتمد عليها النظام في قمع المظاهرات، وكذلك الشبهات التي لا زالت تحوم حول البعض منهم في مجزرة فض اعتصام القيادة العامة، التي تمت  بوحشية غير مسبوقة، فانهم يبحثون عن حاضنة سياسية توفر الدعم لانفرادهم بالسلطة. فحدث هذا التوافق العجيب بين طرفين يفترض انهما على طرفي نقيض، اذا كانت هناك جدية في ما هو مطروح من شعارات سياسية، مشت بها الركبان حول التهميش والابادة الجماعية وجرائم الحرب وضرورة عودة النازحين الى قراهم الاصلية، ولكن يبدو ان لكل مقامٍ مقال.

عقد اذعان

تعاملت السلطة المدنية مع الوثيقة الدستورية كعقد اذعان، شروطه غير المعلنة هي الملزمة. ودافعت قيادات من الحرية والتغيير عن هذا الوضع غير المقبول في وجه الانتقادات التي وجهها الحزب الشيوعي، مدعية ان ذلك هو ما افضت اليه توازنات القوى وقت استلام السلطة. مع ان الوثيقة الدستورية تم التوقيع عليها عقب خروج جماهير المدن السودانية وكل الارياف في مسيرة مليونية، احتجاجًا على فض اعتصام القيادة العامة، ما يشير الى ان ميزان القوى كان راجحاً في مصلحة قوى الثورة، لا قيادات المجلس العسكري التي كانت تلاحقها تهمة ارتكاب المجزرة. فكان ان قبل مجلس الوزراء من غير اعلان وتعاملاً مع سياسة الامر الواقع، بخروقات العساكر للوثيقة الدستورية. وتخلى المجلس عن صلاحياته في ادارة ملف السلام للمجلس الاعلى للسلام برئاسة السيد حميدتي. ولكن تطاول امد التفاوض حتى استنفذ المدة الممنوحة له في الوثيقة الدستورية، وهي 6 اشهر، واكمل العام ولم تحسم تلك المفاوضات بعد.

وترتب على هذا التاخير عدم اكتمال مؤسسات الفترة الانتقالية مثل المجلس التشريعي لمراقبة اداء الحكومة، في ظل تجاوزات وزير المالية الذي يسعى الى اعادة نفس السياسات المالية القديمة، المتمثلة في تنفيذ وصفة صندوق النقد والبنك الدوليين من رفع للدعم عن المحروقات والقمح. وهي سياسة رفضتها اللجنة الاقتصادية لقوى الحرية والتغيير. ولكن ملابسات عديدة اهمها انتقاد الصادق المهدي زعيم حزب الامة وأحد ابرز القيادات المساندة لعملية الهبوط الناعم ، لعمل تلك اللجنة، وتقديمه وثيقة جديدة لاصلاح اوضاع التحالف الحاكم وحديثه عن سقوط الاقتصاد الاشتراكي،  توضح ان الجهات التي تقف  ضد سياسات وزير المالية ومن خلفه مؤسسات التمويل الدولية، هي فقط  حزبا  الشيوعي والبعث. وهذا الوضع اربك المشهد السياسي، واظهر قوى التغيير بانها بصورة غير موحدة، وهذه حقيقة يحاول الكل اجتنابها خاصة بعد مناشدة الحزب الشيوعي لحزب السيد الصادق المهدي الذي جمد عضويته لمدة اسبوعين، وهدد بالانسحاب من التحالف اذا لم يستجاب لرويته، بمراجعة موقفه.

كما ان تعطيل قيام مؤسسات الفترة الانتقالية الى حين توقيع اتفاقية السلام،  ساهم بشكل كبير في استمرار النظام القديم، خاصة في الولايات التي تخضع في ادارتها لحكام عسكريين موالين لنظام الانقاذ، مما يجعل عناصرهم متحكمة في كل مفاصل جهاز الدولة.

وتعطلت ايضاً حوكمة الدولة، المتمثلة في وضع المال العام والمؤسسات الاقتصادية تحت ولاية وزارة المالية. لان تلك الشركات في مجال الصادر والتعدين والطرق والجسور والقمح والدقيق وغيرها، تخضع للموسسات العسكرية. وقد ذكر اقتصاديون ان عائداتها كفيلة باخراج البلاد من محنتها الاقتصادية الحالية، واشاروا الى ان عائدات صادر الذهب وحدها تبلغ 6 مليارات دولار، في حين  قال وزير المالية ومن قبله رئيس الوزراء، ان البلاد تحتاج الى 8 مليارات دولار لتعافي الاقتصاد، منها 2 مليار بشكل عاجل .

لكن وزير المالية  والخبير الدولي سابقاً، استبدل هذه الاجراءات التي تتعامل بواقعية وتنطلق من مستوى تطور الاقتصاد السوداني، بسياسات رفع الدعم لتمويل الموازنة والصرف على الصحة والتعليم ، مما يعني ان  حديث الحكومة عن مجانية الخدمات لا معنى لها، لان المواطن هو الذي يدفع التكلفة من خلال شراء الضروريات بالسعر التجاري.

النظرة (الاقتصادوية)

اعتمدت السلطة على مؤشرات اقتصادية في الموازنة، واستبعدت المؤشرات السياسية والاجتماعية  المتعلقة بحماية الثورة نفسها، وفق اجراءات اقتصادية محددة. لكن تاثير هذه النظرة تمدد وشمل المعارضة نفسها، حتى في شقها اليساري من خلال التعبئة الجماهيرية. فقد سادت نظرة سماها (لينين) في كتابه (ما العمل) بالحالة النقابية الخبزية. وتعني مخاطبة الجماهير من خلال مطالبها الانية، دون الدخول معها في  نقاش مستفيض، حول  البعد السياسي لمجمل  العملية الثورية وافاق تطورها. وذلك نتيجة اعتقاد راسخ داخل حركتنا اليسارية بان الجماهير لا تفهم غير احتياجاتها فقط. وهذا فهم فضلا عن كونه ينطوي على تعالي على الجماهير، فهو خاطئ وتكذبه ثورة ديسمبر نفسها، التي قامت ضد نظام مارس التضليل باسم الدين، ولكن الجماهير تجاوزت كل اكاذيبه واسقطته بشعارات سياسية وليست مطلبية نقابية ( حرية ، سلام وعدالة). والنتيجة هي اهدار فرصة تاريخية قد لا تكرر في القريب العاجل. فقد تميزت الثورة الاخيرة في السودان عن الثورات السابقة، خاصة اكتوبر 1964 وابريل 1985 بالتنظيم الجماهيري الواسع، ممثلاً في لجان المقاومة التي انتظمت المدن الكبرى والارياف السودانية، ربما للمرة الاولى في تاريخها. في حين لم يتجاوز التنظيم الجماهيري والمشاركة الشعبية بشكل منظم في الثورتين السابقتين، العاملين في قطاع الدولة كما في حالة اكتوبر 1964 التي قادتها جبهة الهيئات، وما هي الا نقابات ظل، كذلك التجمع النقابي في نيسان 1985، اما في هذه الثورة  فالى جانب التحالف الحزبي وتجمع المهنيين ظهرت لجان المقاومة. لكن التفاوض حول تشكيل السلطة تجاوزها كما تجاوز  تكوينات شعبية اخرى، مثل لجان الاراضي والمتأثرين من قيام السدود. لذلك تركت الثورة طبقة  الخبراء الدوليين والافندية تساوم حولها بانحيازاتها  الطبقية، التي تتقاطع مع النظام القديم،  لتتفرغ لجان المقاومة الى ما يعتقد ساستنا انها لاتجيد غيره، وهو تنظيم وتوزيع الخبز والوقود وغاز الطبخ.

ان الحالة السودانية من انتظام للمقاومة الشعبية  في حركة جماهيرية غنية المحتوى ومتعددة المنابر، كما اشار الى ذلك شعار مؤتمر الحزب الشيوعي السوداني الخامس، لا تشبهها في تاريخ الثورات الاجتماعية الا تجربة (السوفيتات)، التي اقتحمت مجال السياسة مباشرة، ولم تتركها للقيادات التي  افرزتها ثورة 1905، والتي حين كثرت انحرافاتها كان الشعب الروسي كله مستعدا لاستلام السلطة  بقيادة مجلس السوفييت الاعلى، المكون من  لجان العمال والفلاحين في كل روسيا. لكن تلك معركة سياسية سبقتها معركة نظرية حسمها حزب (لينين) من خلال نقد الاتجاهات (الاقتصادوية الخبزية)، التي لا تثق بالجماهير، وتراها غير قادرة على الفهم بعيداً عن مطالبها الحياتية. وهذا ما غاب  عن تجربتنا السودانية، فاصبحت طبقة  الخبراء والكفاءات هي المتحكمة في مسار الثورة. وسوف تعرضها للانعطاف ذات اليمين في القريب العاجل، كما يتضح من الوثيقة التي دفع بها احد اكبر تكتلات اليمين، وهو حزب الامة الذي اطلق عليها اسم "العهد الجديد"، والتي تطالب باعتماد اقتصاد السوق الحر، وبالتفاهم مع حزب المؤتمر الوطني الذي ثارت عليه الجماهير، بعد ان يقوم بنقد ذاتي لتجربته السابقة في الحكم. وهذه الوثيقة ستخلق على اقل تقدير شرخاً في التحالف الحاكم لمصلحة قوى الردة.

الخرطوم

عرض مقالات: