نشأت في العلاقات الدولية جملة من المعايير الاخلاقية، جرى الالتزام بحدودها الدنيا خلال الحرب الباردة وأدت إلى تحقيق العديد من الانجازات التي أسهمت في تطور العلاقات بين الدول لخدمة البشرية.

سأتناول المعايير الأخلاقية في نظام العلاقات الدولية عبر محورين، الأول منهما، نظام العلاقات الدولية خلال نظام ثنائية القطبية، والثاني، المعايير الاخلاقية خلال نظام القطبية الواحدة.

المحور الأول: المعايير الاخلاقية في العلاقات الدولية خلال نظام ثنائية القطبية

تشكل نظام للعلاقات الدولية قائم على ثنائية القطبية، الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، وأدى تطوره إلى تأسيس العديد من المنظمات الدولية كمنظمة الأمم المتحدة والعديد من المنظمات الاقليمية، منظمة عدم الانحياز، منظمة الوحدة الأفريقية، الجامعة العربية، السوق الأوربية المشتركة، منظمة السلم والتعاون الأوربي، اضافة إلى منظمات دولية تهتم بالتعاون الدولي في مختلف المجالات كمنظمة الصحة العالمية، ومنظمة العمل، ومنظمة العلوم والثقافة (اليونسكو)، واليونيسف وغيرها من المنظمات الدولية والإقليمية التي كانت لها تأثيرات كبيرة على السيطرة على الطبيعة وتسخيرها لخدمة البشرية وتلبية حقوق الإنسان السياسية والاجتماعية.

وقد وضعت هذه المنظمات أسس النظام الدولي الجديد والضوابط الأخلاقية التي تحكم العلاقات بين الدول وأسس السلم والأمن الدوليين بما يؤدي إلى منع الحروب وتلبية حقوق الإنسان الأساسية، بالاعتماد على العديد من المعاهدات والاتفاقيات الدولية، ومنها، معاهدة تحريم التجارب النووية ومنع انتشارها، تحريم استخدام أسلحة الدمار الشامل البيولوجية والكيماوية، معاهدة الحد من سباق التسلح بكافة أنواعه، منظمة التجارة العالمية.

كما قامت بصياغة عدد من المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي تستجيب لحقوق الإنسان السياسية والاجتماعية، ومنها، معاهدة حقوق الأنسان لعام 1948، معاهدات حقوق المرأة والطفل، معاهدة منع التمييز العنصري، معاهدة الحقوق الاجتماعية والسياسية، معاهدة باريس للحد من التلوث البيئي.

أما في الجوانب السياسية، فقد ادى الالتزام بالمعايير الاخلاقية في السياسة الدولية إلى تغييرات هامة في العلاقات الدولية منها:

1 ـ ظهور مبدأ التعايش السلمي على صعيد العلاقات الدولية الأمر الذي أدى الى  تحقيق استقرار دولي نسبي.

2ـ حل النزاعات بين الدول بالطرق السلمية وعدم اللجوء للقوة.

3 ـ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى واحترام السيادة الوطنية.

4 ـ نشوء عشرات الدول الوطنية وانهاء السيطرة الاستعمارية في العالم.

5ـ توفر إمكانية أمام التطور الاجتماعي المستقل لكثرة من البلدان الوطنية، الأمر الذي أدى إلى تحقيق حد معين من العدالة الاجتماعية في توزيع الثروات الوطنية واقامة نظام للخدمات الاجتماعية تستفيد منه أغلبية الفئات والطبقات الاجتماعية.

6ـ ظروف التطور الاجتماعي المستقل، سمحت بظهور دولة الرعاية الاجتماعية في دول شمال أوربا، تميز بالاستفادة من أفضليات النظامين الاشتراكي والرأسمالي.

7 ـ تعاون دولي مثمر في كافة المجالات التي تخص البشرية، خاصة الحد من تلوث البيئة والكوارث الطبيعية والحد من سباق التسلح.

8 ـ تكون رأي عام عالمي لتلبية حقوق الإنسان من خلال انهاء الأنظمة الدكتاتورية والاستبداد وتحقيق الديمقراطية بحدودها الدنيا.

المحور الثاني: المعايير الاخلاقية خلال نظام القطبية الواحدة

بشر فرنسيس فوكاياما، عام 1989 ب (نهاية التاريخ) ، مبررا ذلك بانتصار الفكر الليبرالي في العالم وهزيمة الخيارات الفكرية الأخرى المنافسة للخيار الرأسمالي الليبرالي في التطور الاجتماعي. وبعد مرور فترة على نظرية نهاية التاريخ، أعلن انتهاء الحرب البادرة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي ونشوء نظام عالمي جديد قائم على القطبية الواحدة بقيادة الولايات المتحدة.

إن مفهوم نهاية التاريخ لم يكن من اختراع فوكوياما، حيث سبقه هيغل الذي أعلن نهاية التاريخ بعد الهزيمة التي لحقها نابليون بالملكية البروسية في معركة أيون 1806، كذلك أشار ماركس إلى نهاية التاريخ بعد تمكن الإنسان من السيطرة على منتوج عمله والسيطرة على الطبيعة وتسخيرها لصالح البشرية.

إن تتبع مسيرة نشوء نظام العلاقات الدولية القائم على العولمة الرأسمالية بعد انهاء الحرب الباردة، يؤشر إلى أن تطور نظام القطبية الواحدة لم يثبت توقف التاريخ باعتبار النظام الليبرالي الأفضل لتطور البشرية، سواء في ما يتعلق بتطور النظام الرأسمالي، الذي عاني تحديات كبيرة تمثلت بتكرار الأزمات الاقتصادية الدورية، أو في مواجهة التحديات التي نتجت عن الاستخدام النفعي للتطور التكنولوجي من قبل الأنظمة الرأسمالية الكبرى الذي أدى إلى تلوث البيئة والمناخ، وأخيرا فشل نظام الليبرالية في مواجهة الأوبئة وآخرها جائحة كورونا.

لقد أفرز نظام القطبية الواحدة العديد من التغييرات على فعالية المعايير الأخلاقية ومدى الالتزام بها في العلاقات الدولية، سواء بعلاقات الدولة الرسمالية الكبرى مع الدول الوطنية أو على صعيد العلاقات بين الدول الرأسمالية الكبرى والتطور الاجتماعي فيها.

أولا: سياسة الدول الرأسمالية الكبرى الأخلاقية تجاه الدول الوطنية

لقد بينت سياسة الدول الرأسمالية الكبرى تجاه الدول الوطنية، تخليها عن كثرة من المعايير التي ظهرت خلال نظام ثنائية القطبية الأمر الذي أدى إلى نتائج خطيرة على تطور هذه البلدان ومنها:

أـ تفكيك السيادة للدولة الوطنية وزيادة التدخلات العسكرية من قبل الدول الرأسمالية الكبرى في النزاعات الوطنية وما نتج عن ذلك.

ب نشوب حروب أهلية دائمة في العديد من الدول،( أفغانستان، سوريا ، ليبيا، اليمن، الصومال) أضافة إلى العديد من دول جنوب الصحراء الأفريقية ووسطها (نيجيريا، مالي، النيجر، الكونغو).

ج ـ نشوء نزاعات إثنية وطائفية ومذهبية في العديد من الدول الوطنية.

د ـ نتج عن الحروب الأهلية والنزاعات الإثنية والمذهبية والأعمال الإرهابية، ملايين اللاجئين والمهجرين.

هـ. استخدام العقوبات الاقتصادية الدولية كأداة ضغط على البلدان الوطنية التي ترفض هيمنة الشركات الرأسمالية الكبرى وتنتهج نهجاً وطنيا مستقلاً في التنمية الاجتماعية..

وـ عودة الدول الرأسمالية الكبرى إلى سياسة الاحتلال والغزو كما حدث في افغانستان والعراق وغيرها من البلدان الأفريقية.

زـ تحول عدد كبير من الدول الوطنية المستقلة، إلى دولة فاشلة، لعدم قدرتها على تلبية الحد الادنى من الحاجات الاجتماعية لمواطنيها، وفقدانها السيادة الوطنية، بسبب ضغوط قوى الهيمنة الرأسمالية المعولمة عليها.

ثانياً: البلدان الرأسمالية وعدم الالتزام بالمعايير الأخلاقية

1ـ تفكيك دولة الرعاية الاجتماعية، بعد انهيار المنظومة الاشتراكية وقد تم ذلك من خلال خصصة الخدمات الاجتماعية، خاصة نظام الرعاية الصحية والنظام التعليمي.

2ـ سياسة المعايير المزدوجة، بخصوص حقوق الإنسان، ومن أبرزها على الصعيد الدولي القضية الفلسطينية.

3ـ تنامي الإرهاب الدولي، بسبب الدعم المباشر وغير المباشر للدول الرأسمالية الكبرى للمنظمات اليمينية المتطرفة على الصعيد العالمي.

4ـ زيادة جني الأرباح، حتى في زمن الكوارث التي تهدد البشرية، مقابل التخلي عن حماية الإنسان من مخاطر تلوث البيئة التي تسببها التغييرات المناخية الناتجة عن التطور التكنولوجي.

5ـ زيادة معدلات الفقر على الصعيد العالمي، يقابله زيادة هائلة في عدد الأغنياء، حيث يستحوذ 10% من سكان العالم على الجزء الأكبر من الثروة العالمية والخدمات، مقابل أكثر من مليار مواطن يعيشون تحت مستوى الفقر( الدخل اليومي بحدود دولارين).

6ـ تسخير العلم لتدمير البشرية بدلا من المحافظة عليها، حيث زاد الانفاق على سباق التسلح والأبحاث الخاصة لتسريع نوعيته الفتاكة، وتقليل الموارد المخصصة للبحث العلمي الموجه لمكافحة الأوبئة والأمراض، كذلك تقليل الموارد المخصصة للخدمات الاجتماعية والصحية، بشكل خاص.

كما كشف التعامل مع جائحة كورونا عن ابتعاد الدول الرأسمالية الكبرى عن المعايير الأخلاقية. وبهذا الشأن نشير إلى بعض المعطيات:

أـ إعاقة التعاون الدولي الهادف الى تنسيق الجهود لمواجهة الوباء والتقليل من فرص انتشاره الواسع، من خلال العمل على تسييس الجائحة العالمية بتوجيه الاتهامات للصين ومنظمة الصحة العالمية، بأنها المسؤولة عن انتشار الجائحة في العالم.

إن هذه السياسة تهدف إلى التغطية على تأخر الدول الرأسمالية الكبرى عن اتخاذ الإجراءات المبكرة لمواجهة الجائحة.

ب ـ التهويل الإعلامي الكبير والمضلل لخلق حالة من الخوف والرعب من الجائحة، خاصة بتأثيرها على كبار السن، بهدف تبرير المزاعم التي تدعي أن الحكومات غير قادرة على الوقوف بانتشار الجائحة.

ج ـ فرض الانكماش الاجتماعي، وغلق الحدود ومنع الانتقال الحر للأفراد والسلع والخدمات. ويعتبر ذلك من الناحية العملية التخلي عن أهم المبادئ التي قامت عليها العولمة، كحرية الأسواق والانتقال الحر للأفراد والبضائع والخدمات.

دـ رفض تقديم المساعدات الطبية للدول التي عانت أكثر من غيرها، الامر الذي أدى إلى انتشار الجائحة بشكل واسع في هذه الدول.

هــ ـ عدم اتخاذ الاحتياطات الضرورية لمنع تفشي المرض وحماية الفئات الضعيفة، كبار السن والأقليات والمهاجرين، أو التأخر باتخاذ الاجراءات بعد تفشي الجائحة بين الفئات السكانية الضعيفة.

وـ تشديد العقوبات على بعض الدول (إيران، سوريا، فنزويلا وكوبا)، وعرقلة تقديم المساعدات الطبية والإنسانية الضرورية لمواجهة الجائحة.

ز ـ إفلاس آلاف المؤسسات الصغيرة بسبب الانكماش الاقتصادي الذي سببته الجائحة وتأثير ذلك على تدني مستويات المعيشة لملايين العوائل.

ح ـ زيادة البطالة بمستويات قياسية واستثمار ذلك للضغط على الأجور وشروط العمل لصالح كبار الرأسماليين.

ط ـ نهب مدخرات المواطنين نتيجة انهيار أسعار الأسهم والسندات.

ي ـ زيادة ديون الدول الفقيرة التي هي أصلا مثقلة بالديون، بسبب حاجتها لاقتراض المزيد من الاموال من البنوك الدولية لدعم اقتصادها الذي تعرض إلى خسائر كبيرة نتيجة للجائحة.

ك ـ تدخل الدولة لصالح حماية الشركات الكبرى من الافلاس، يعتبر عملا لا أخلاقيا، لانه يحول أموال الضرائب إلى الشركات الكبرى بدلاً من تخصيصها للخدمات العامة.

بعض الاستنتاجات

أولا- الدور الهام للدولة في تسخير موارد المجتمع البشرية والمادية لمواجهة الجائحة وتقليل تأثيراتها المختلفة، حيث أشارت التجربة إلى أن النظام المركزي كان أكثر قدرة على مواجهة الجائحة من الدولة التي تتحكم بها النخب الرأسمالية ذات المصالح المتعارضة.

ثانيا- الوعي الاجتماعي الجمعي وليس الوعي الفردي القائم على الذاتية الفردانية، كان عاملاً مساعدا في النجاح في مواجهة الجائحة.

ثالثا- أهمية سيطرة المجتمع على تنظيم وإدارة الخدمات الاجتماعية، والصحية منها بشكل خاص.

رابعا- تفكك العلاقات بين المراكز الرأسمالية الكبرى بسبب الروح الانعزالية والتعامل المنفرد، الأمر الذي أدى إلى انتشار الجائحة وزيادة مخاطرها، خاصة في الولايات المتحدة وأوربا وكذلك بين دول شمال وجنوب الاتحاد الأوربي.

خامسا- فشلت الزعامات الشعبوية، التي تقود بعض البلدان الرأسمالية، في اتخاذ الاجراءات الضرورية لمواجة الجائحة، وقامت بدلا من ذلك بتقديم المعلومات المضللة لشعوبها وتوجيه الاتهامات للدول الأخرى، ونتيجة لذلك تعرضت بلدانها إلى خسائر بشرية ومادية كبيرة.

خاتمة

تشير الأحداث الفعلية على الصعيد الدولي إلى أن المعايير الأخلاقية في العلاقات الدولية ليس لها تأثير يذكر، عندما تركت الدول التي تعرضت للجائحة تواجه المشكلة لوحدها من دون مساعدة دولية فعالة حتى من حلفائها، بل كانت الغلبة للسياسة التي عملت على تسيس الوباء وتوجيه الاتهام لهذه الدولة وتلك بدلا من الانخراط في التعاون الدولي لمواجهة الجائحة. وهذا يرجع إلى عاملين، الأول، استهانة كثرة من قادة هذه الدول الرأسمالية، على الرغم تحذيرات منظمة الصحة العالمية، والعامل الثاني، فشل الانظمة الصحية في الدول الرأسمالية الكبرى في المواجهة بسبب تقليص الموارد المخصصة للخدمات الصحية الذي بدأ بعد انتهاء الحرب الباردة واستمر لحد الآن، اضافة إلى خصصة قطاعات الخدمات.

أخيراً، يشير تطور العلاقات الدولية بعد تجاوز الجائحة إلى احتمالية ظهور اتجاهين، الأول، يشير إلى تنامي النزعة الوطنية، مما يؤدي إلى مزيد من التفكك في العلاقات الدولية بين دول الرأسمالية المعولمة، لصالح الانعزالية القومية، والاتجاه الثاني، يؤشر إلى تخلخل نظام القطبية الواحدة وفقدان الولايات المتحدة المصداقية في قيادة النظام الدولي الذي تشكل بعد إنهيار المنظومة الإشتراكية، وما ينتج من تشكل نظام دولي جديد للصين وروسيا دور فيه ، كما كان لهما مثل هذا الدور الفاعل في التعاون الدولي لمكافحة الجائحة.

ان الاستنتاج المشار اليه لا يعني إن التطورات تكون حتمية بهذين الاتجاهين، بسبب أن القوى اليمينية المحافظة، سواء في الولايات المتحدة أو في بعض الدول الأوربية، لا تسلم بالواقع الدولي الجديد بسهولة، بل ستقوم بمحاولات لعرقلته، بما فيها اللجوء إلى التهديد باستخدام القوى أو تشديد العقوبات الاقتصادية والمطالبة بالتعويضات من بعض الدول، الصين مثلا، تحت ذريعة المسؤولية عن انتشار الجائحة، لذلك تبقى المخاطر قائمة على الأمن والسلم في العالم.

عرض مقالات: