اشار ماركس في (البيان الشيوعي) الى (ان تاريخ اي مجتمع حتى الآن ليس سوى تاريخ صراعات طبقية.. وان الأسلحة التي صرعت بها البرجوازية الاقطاع ترتد الآن على البرجوازية نفسها.. بيد ان البرجوازية لم تصنع فحسب الأسلحة التي تؤدي بحياتها بل انجبت ايضا الرجال الذين سيستعملون هذه الأسلحة: العمال العصريين او البروليتاريين .. فبقدر ما تنو البرجوازية اي رأس المال تنمو ايضا البروليتاريا اي طبقة العمال العصريين .. واشار ماركس في كتاباته الى ان تقدم الصناعة الذي تشكل البرجوازية اداته الطيعة وغير الواعية يحل وحدة العمال الثورية الناتجة عن اتحادهم محل عزلتهم الناتجة عن تزاحمهم ، وهكذا يسحب تطور الصناعة الكبرى من تحت اقدام البرجوازية البساط الذي اقامت عليه نظام انتاجها وتملكها . ان البرجوازية تنتج اول ما تنتج حفاري قبرها فسقوطها وانتصار البروليتاريا امران حتميان...)
مرت الرأسمالية في تطورها التاريخي بعدة مراحل ابتداء من سيادة راس المال التجاري الذي صاحب فترة الاستكشافات الجغرافية ومن ثم سيادة راس المال الصناعي في مرحلة الثورة الصناعية التي ظهرت في انكلترا وانتقالها بعد ذلك الى اوربا وامريكا ابان مرحلة الاستعمار الاستيطاني ثم الامبريالية التي هي الرأسمالية الاحتكارية التي تمثل المرحلة الاخيرة من تطور الرأسمالية حيث سيطرت الاحتكارات الرأسمالية الضخمة على الانتاج وتصريف السلع، وقد تطورت وسائل الانتاج عبر كل المراحل التاريخية للرأسمالية.
كان توجه الرأسمالية الى عالمية السوق وهذا ما يتناقض مع اقليمية السياسة المحددة بحدود الدولة القومية وحدود السيادة الوطنية حيث تضع الدولة القيود في التعامل التجاري والاقتصادي والثقافي داخل حدودها الاقليمية وبذلك اصبحت الدولة القومية عائقا امام تكوين سوق عالمية موحدة بالكامل واصبح من الضروري للرأسمالية اقصاء الدولة القومية عن الطريق. وظهر هذا الامر منذ ظهور الشركات المتعددة الجنسية والانتقال الى مرحلة دولية الانتاج. كما سعت الرأسمالية الى دمج اقتصاديات الدول النامية بها لغرض الحصول على المواد الاولية اللازمة للصناعة اضافة الى اعتبارها سوقا لتصريف منتجاتها المختلفة.

الرأسمالية الصناعية والحرب العالمية:

بعد الحرب العالمية الثانية خرجت الرأسمالية الصناعية ضعيفة وكان همها هو ازالة القيود امام استعادة قوتها واستعادة عولمة الاقتصاد من جديد. وقد اثرت العمليات العسكرية كثيرا على الدول الاوربية التي كانت مسرحا لها مما سبب بإضعاف جميع الاطراف المتحاربة في الوقت الذي ساعد ذلك امريكا للظهور كقوة اقتصادية وسياسية جديدة كونها:
1. كانت بعيدة عن العمليات العسكرية التي كان مسرحها اوربا، فلم يتعرض اقتصادها وبناه التحتية الى الدمار كما حصل في اوربا.
2. هجرة اعداد كبيرة من العقول والكوادر الاوربية اليها.
3. انتقال رؤوس الاموال الى امريكا.
4. تطورها في مجال الصناعة.
كل هذه العوامل ساعدت على تربع امريكا على عرش النظام الرأسمالي، وصاحب ذلك تغيير جذري في قوى الانتاج ودخول المكائن والآلات بشكل واسع في عملية الانتاج ما ادى الى تقلص دور الانسان داخل العملية الانتاجية بسبب الاتمتة، وكان من نتائج ذلك بروز مشكلة البطالة، كما قامت في هذه المرحلة ثورة صناعية جديدة في مجال المعلومات والاتصالات وتقنياتها التي ادت الى تسارع عولمة النشاط الانتاجي والمالي، وقد لعبت الشركات المتعددة الجنسيات الدور الرئيسي في عولمة النشاط الانتاجي.
الازمة الرأسمالية العالمية 1929-1932:
في نهاية العشرينات من القرن العشرين ظهرت بوادر ازمة اقتصادية عالمية اتسمت بانهيار اسواق المال والعملات الاساسية وكساد الانتاج واتساع نطاق البطالة التي قدرت بحدود 30- 40 مليون عاطل، مما جعل الوضع الاقتصادي الدولي على حافة الانهيار، وفي نفس هذه الفترة من الازمة الرأسمالية (1936) ظهر الاقتصادي (جون كينز) بنظريته المعروفة بـ (الكينزية) لمعالجة ازمة النظام الرأسمالي حيث اصبحت النظرية الكلاسيكية غير قادرة على حلها بعد ان اثبتت سياسة اقتصاد السوق فشلها وكادت ان تسبب بالإطاحة بالنظام الرأسمالي خلال فترة الكساد العظيم. ودعا كينز الى ضرورة تدخل الدولة في النشاطات الاقتصادية وزيادة حجم الاستثمار والدخول في استثمارات جديدة لاستيعاب البطالة القائمة آنذاك..

افرازات الحربين العالميتين:

أفرزت أحداث الحربين العالميتين الاولى والثانية في النصف الاول من القرن العشرين:
1. نظاما دوليا جديدا تميز بظهور قطبين دوليين تقاسما النفوذ فيما بينهما ولكل منهما أيدولوجيته.
2. سباق التسلح بين القطبين والحرب الباردة بينهما وغزو الفضاء.
3. حدوث تطور هائل وسريع في مجال العلم والتكنولوجية وهو يمثل (الثورة الصناعية الثالثة) التي دخل بها العلم القرن (21) والمتمثلة بثورة المعلومات وشبكات الاتصال التي جعلت العالم قرية صغيرة.
واستطاع النظام الرأسمالي أن يوظف التطور العلمي والتكنولوجي لصالحه من أجل تجاوز ازماته، وقد ساعد انهيار الاتحاد السوفياتي على انفراد الولايات المتحدة الامريكية بالعالم كقوة عسكرية وسياسية ،واصبح الدولار العملة المتحكمة بالاقتصاد العالمي، وبدأت الولايات المتحدة بفرض نظامها الرأسمالي على العالم من خلال استخدام التحالف مع اصحاب رؤوس الاموال العالمية والشركات المتعددة الجنسية والمؤسسات المالية كوسيلة للهيمنة على الدول الاخرى معتمدين على القوة العسكرية للولايات المتحدة والمؤسسات الدولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية.
ان التطور الحاصل في الانتاج داخل المنظومة الرأسمالية نتيجة الثورة الصناعية وثورة المعلومات تطلب البحث عن اسواق تستوعب هذه الزيادة في الانتاج وتحول الرأسمالية الى اعلى مراحلها الا وهي مرحلة الامبريالية. وبمقابل أزمات النظام الرأسمالي الامريكي والمتمثلة بالعجز المالي الكبير وحالات الافلاس، نمت اقتصاديات دولية جديدة لاوربا الموحدة واليابان والصين وكوريا الجنوبية والنمور الاسيوية..الخ والتي من الممكن ان تشكل قوى اقتصادية سياسية وتعيد التوازن الدولي بصيغ تجعل من انفراد الولايات المتحدة امرا مستحيلا.
دروس ازمة الكساد العظيم 1929_ 1932:
لقد وفرت الازمة الاقتصادية العالمية 1929_1932 دروسا ودلالات جوهرية لا يمكن الاستغناء عنها:
أ‌- لم يتمكن النموذج الكلاسيكي التقليدي للرأسمالية الذي اعتمده الاقتصادي (آدم سميث) من الصمود أمام الازمات التي تعرض لها النظام الرأسمالي، حيث توقف النمو وازدادت البطالة وارتفعت معدلات التضخم.
ب‌- كما ان النظرية الكينزية لم تتمكن من معالجة ازمة النظام الرأسمالي، الا ان كنز قد نجح في وضع الاسس للجمع بين دور السوق وآلياته وبين دور الدولة وتدخلاتها او ما يطلق عليه (الاقتصاد المختلط).
ت‌- في الثمانينات من القرن الماضي تعرض المنهج الكنزي الى نكسات حيث رفض قادة المنظومة الرأسمالية تدخل الدولة ودعوا الى تقدير آليات السوق بطريقة احادية الجانب، وقد ادى ذلك الى المزيد من الازمات الاقتصادية البنيوية التي تعرض لها النظام الرأسمالي.
ث‌- وفي بداية التسعينات تمت الدعوة للأخذ بالاقتصاد المختلط.
ج‌- الازمة الرأسمالية التي تحدث في اي بلد وخاصة الولايات المتحدة كونها اكبر دولة في المنظومة الرأسمالية وتمثل اكبر اقتصاديات العالم تنعكس على الاقتصاديات الاخرى سواء كانت في البلدان الصناعية أم في البلدان النامية.
لقد اثار المنهج المعتمد في معالجة الازمات المتكررة للنظام الرأسمالي باعتماد آلية السوق وحدها أم بتدخل الدولة الى جانب اليات السوق جدلا بين منظري الرأسمالية ،فمنهم من يقول بضرورة الخروج من الرأسمالية المالية بطابعها السائد اليوم( والرأسمالية المالية هي شكل من اشكال الرأسمالية تصبح وساطة المدخرات الى الاستثمار هي الوظيفة المهيمنة في الاقتصاد مع تداعيات اوسع نطاقا للعملية السياسية والتطور الاجتماعي واصبحت اليوم القوة المهيمنة في الاقتصاد العالمي، وهي تتسم بغلبة السعي وراء الربح من عمليات الشراء او البيع او الاستثمارات في العملات والمنتجات المالية مثل السندات والاسهم والعقود الآجلة كما تتضمن اقراض المال بفائدة، وهي في الحقيقة منهج استغلالي من منظور انه يوفر الدخل لغير العاملين.)،ويرى البعض الاخر ضرورة الالتزام بالثوابت الاساسية للنظام الرأسمالي ( حرية السوق ،وحرية النشاط الاقتصادي ، وحرية التجارة الدولية) .
ومنهم من يقول بما أن هناك تداخل بين المنظومة الغربية لذلك ينبغي اتخاذ موقف موحد تجاه الازمة (دون التفريط بالمبادئ العامة) بإيجاد حل وسط متمثلا بفرض المزيد من الرقابة على المؤسسات المالية وضبط الممارسات في الاسواق المالية .

مميزات الطور الجديد من التوسع الرأسمالي:

يتميز الطور الجديد من التوسع الرأسمالي بـ:
1. وحدة تشكيلة الرأسمالية المعولمة.
2. الوحدة الاقتصادية العالمية الناتجة عن وحدانية علاقات الانتاج الرأسمالية الدولية.
3. هيمنة أيدلوجية الليبرالية الجديدة وشعاراتها السياسية، الديمقراطية، حقوق الانسان، اقتصاد السوق.
4. الوحدة العسكرية للمنظومة الرأسمالية العالمية والمتمثلة بحلف الاطلسي بعد تغيير طبيعته الدفاعية الى هجومية مدافعة عن مصالح الدول الكبرى.
5. تشترط الرأسمالية بناء العلاقات الدولية على اساس اضعاف مبدأ السيادة لغرض التدخل في صياغة الانظمة السياسية للدول الوطنية بهدف دمج بنيتها الاقتصادية في التكتلات الاقتصادية الدولية الناهضة.
6. انفراد الرأسمال الامريكي في تقرير شؤون السياسة الدولية وذلك بمعزل عن الشرعية الدولية ومن خلال اعتماد القوة العسكرية والعنف الاقتصادي في حل الصراعات الدولية كما حصل في العراق بفرض الحصار عليه وشن الحرب عليه واحتلاله عام 2003 وكذلك السعي الى اعتماد قوانين الكونجرس الامريكي بديلا عن القوانين الدولية.
في الرأسمالية ازمة تلد اخرى، فقد ادخل الرئيس الأمريكي ترامب بسياسته المعتمدة على شعاره (الولايات المتحدة اولا) دول النظام الرأسمالي في حرب تجارية طاحنة مع بعضها البعض حيث قام بفرض الرسوم الجمركية وبنسبة 25 في المائة على واردات الالمنيوم والصلب من الاتحاد الاوربي اضافة الى كندا وحربه التجارية مع الصين وسياسته المتوترة مع معظم دول العالم يعتبر احد مؤشرات حفر قبر الرأسمالية ، كما سدد ترامب ضربة للشركات المتعدية الجنسية الأمريكية العاملة في الصين وكندا ودول الاتحاد الاوربي اذ ان جزءا كبيرا من الرسوم المفروضة على السلع المستوردة تخص الشركات الأمريكية العاملة في تلك الدول . اضافة الى تسديده ضربة قاصمة للنظام التجاري الرأسمالي المعمول به في اطار منظمة التجارة العالمية. وتعتبر منظمة التجارة العالمية اداة من ادوات الاستعمار الجديد وادامة التبعية وكما اشار د. سمير امين فإن الهدف المركزي والأساسي لانشاء منظمة التجارة العالمية هو اخضاع العالم للقوى النيوليبرالية المعولمة. فالحرب التجارية التي اعلنها ترامب تعكس ازمة الرأسمالية في الولايات المتحدة وفي علاقتها مع

بقية دول الشمال والصين.

استنتاجات ودروس من الازمة الرأسمالية العالمية:
1) أثبتت ازمة النظام الرأسمالي فشل أيدولوجية السوق الحرة التي تقوم عليها الليبرالية الجديدة.
2) الازمات المتكررة للمنظومة الرأسمالية العالمية وعلى رأسها الولايات المتحدة الامريكية لها اثرها على القطبية الاحادية لها وعلى هيمنتها على النظام المالي العالمي في الوقت الذي تنمو فيه اقطاب اقتصادية اخرى مثل اليابان، كوريا الجنوبية، الصين، النمور الاسيوية... الخ.
3) اثبتت الازمة الرأسمالية ان السوق المنفلتة يمكن ان تقود الى كوارث وشجعت المناضلين من اجل البحث عن بديل افضل يتخطى الرأسمالية.
4) انتهاج اسلوب دمج المؤسسات الرأسمالية وخفض العمالة لغرض معالجة ازمة النظام.
5) ان الازمة قد اكتسبت طابعا معولما وطغيان الطابع المالي على الاقتصاد الرأسمالي في المراكز الرأسمالية نتيجة لإطلاق حرية حركة وانتقال رؤوس الاموال عبر الحدود وازالة جميع الضوابط الوطنية التي تتحكم فيها وترتب على ذلك تضخم انشطة المضاربة وانحسار الانشطة الانتاجية.
6) تمثل ازمة النظام الرأسمالي تهديدا بالغ الخطورة للاقتصاد العالمي ككل نتيجة الدور المتعاظم للرأسمال المالي والاعتماد المتبادل بين اقتصادات الدول. ارتباطا باتساع عملية العولمة.
7) تعبر الازمة عن التناقضات الداخلية للرأسمالية المعولمة وتكشف عجز النظام الرأسمالي عن حل التناقضات.
8) ان ازمة النظام الرأسمالي ستفرض على الرأسمالية طي صفحة الليبرالية الجديدة ووضع ضوابط جديدة يفترض ان تحول دون انفلات حركة الاسواق المالية ودون تكرار انفجار ازمات مشابهة. وبذلك تكون الازمة قد اعلنت نهاية اطروحات (نهاية التاريخ) و(ابدية النظام الرأسمالي) وتحفز لعملية الانتقال لعالم متعدد الاقطاب.
9) وفرت الازمة على صعيد الفكر والوعي تربة خصبة لانتعاش الافكار المتشددة (العنصرية والسوفيتية والدينية.المتطرفة..).
ان العالم يشهد منذ ازمة 2008 فشل نظرية (فوكوياما) احد ابرز منظري النيوليبرالية الذي اعتبر الرأسمالية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي نهاية التاريخ.
ان ازمة النظام الرأسمالي هي ازمة بنيوية مرتبطة بسياسات النظام الرأسمالي وتطوره التاريخي. لقد جبل النظام الرأسمالي على خلق الأزمات وهو نظام حامل للأزمات.
وتشير الاحداث والازمات المتكررة للمنظومة الرأسمالية العالمية الى اننا مازلنا بحاجة الى ماركس لمعالجة هذه الاوضاع لصالح الطبقة العاملة والكادحين بعيدا عن الاستغلال.