تناقلت مواقع التواصل الاجتماعي في الاسابيع الماضية تنبؤات عن قرب اندلاع حرب عالمية ثالثة، وهذه المرّة صدق المتنبئون، إلاَّ أنَّ الحرب لم تكن من الحروب التقليدية، بل نوعا من حروب غير مألوفة . وإذا كانت مساحة الحربين العظميين، الأولى والثانية، قد اشتملت على مساحات معينة من دول العالم، فهذه الحرب غطّت المعمورة بأسرها. ولو افترضنا أنَّ بعض الدول لم تصبها خسائر تذكر في الارواح، فإنّ تداعيات ذلك على اقتصاداتها ومستقبلها السياسي، والاجتماعي، ستكون باهضة التكاليف.
واللافت للأمر، لم تمض أيام معدودات على تسونامي وباء كورنا حتى تهاوت البنى التحتية للنظم الصحية في بعض الدول الأوربية بعد غرقها في أتون الوباء، وانهارت معها سبل قوتها وجبروتها بأشكال مفجعة، وانكشف وهنها وعجزها في ايقافه أو الحد من انتشاره على أقل تقدير، كما حدث في إيطاليا وأسبانيا وفرنسا وبريطانيا وأخيرا الولايات المتحدة التي تصدرت دول العالم بجسامة ما تكبدته من وفيات وإصابات، أمام اجتياحه الخاطف. وإذا كان بعض الناس يعتقدون، أنّ بإمكانهم الخلاص من المآزق الحياتية الافتراضية التي ستواجههم بما يدخرونه من أموال، فقد كشف كوبيد 19 عن عجز المال في نجدة أصحابه. ومن جملة ما كشفه هذا الوباء الكوني بؤس النظم الصحية لهذه الدول وخوائها، وبدى تبجحها وغطرستها فارغا أمام اجتياحه لمعاقلهم بدون هوادة، وهو يخبط خبط عشواء، وبدت حياله أعتى الدول عاجزة عن تلبية أبسط متطلبات الوقاية من كمامات وقفازات وأجهزة تنفس، وضاقت المستشفيات، والمستشفيات الميدانية ذرعا بالأعداد المتضاعفة يوميا، فما كان من هذه الحكومات، لكي تخفف من حجم الضغوطات الهائلة عن المستشفيات، سوى الدعوة إلى الاهتمام بالشباب، وتقديم كبار السن القاطنين في دور المسنين قربانا لفيروس كورونا والتخلص من أعبائهم باعتبار أغلبهم يعانون من امراض مزمنة . وليس غريب على الدول الرأسمالية نهجها مثل هذا النهج، فقد بشّر منظروها في الستينات من القرن المنصرم بالحروب وسيلة للحد من تزايد سكان الأرض، واليوم يضحون بآبائهم وامهاتهم بأرسالهم إلى المحارق التي باتت عاجزة عن استقبال الموتى قبل مرور أقل من عشرين يوما، كم يحدث في إيطاليا الآن، علّهم يضعون تنظيراتهم التاريخية في مستوى التطبيق الافتراضي، وكأن الخلل لا يكمن في سياسة تعاطيهم مع نظم الرعاية الصحية عندهم . ولو توقف الأمر عند هذه الحدود هان بعضه إزاء التحديات المستقبلية الجمّة والتي ستطال النظم السياسية في العالم برمته .
وأمام فداحة المحنة الكونية التي نعيشها اليوم، وعجزهم الفاضح في التعاطي مع هذا الوباء، لم يجدوا بدا من فُتح الباب أمام حرب عالمية من نوع جديد، حرب لا تتطلع إلى امتيازات جيوسياسية تتقاسم العالم بها أو الوصول إلى منابع النفط والمياه الدافئة، وإنما لتأمين الحصول على بعض المعدات اللازمة لمكافحة جائحة كرونا الفتاك وفي مقدمتها الكمامات بعدما وجدت نفسها عاجزة عن تلبيتها، وقد عرفت هذه الحرب في الأدب السياسي المعاصر بـ "حرب الكمامات"، بعد أن أصبحت الكمامات سلعة ذات أهمية عظمى عالميا، وأصبح الحصول عليها بمثابة إعلان حرب بين كبرى العواصم، ما دفع ببعض الدول إلى الاستيلاء على شحنات من تلك المواد كانت متجهة إلى دول أخرى من دون أدنى حق في مشهد غير مسبوق يذكرنا بشريعة الغاب، ووصل الأمر بالرئيس الأمريكي إلى التلويح بالردود القاسية تجاه من يقف أمام حصوله على الكمامات الواقية . وعلى ما يبدو أنّ الحاجة إلى ملايين بل مليارات الكمامات، وعجز الدول عن الإيفاء بها دفعها باللجوء إلى سلوك أهوج يمكن تسميته في الأدب السياسي الحديث اصطلاحا بـ " القرصنة العصرية "، وهذه القرصنة هي من نوع آخر ليست البحار ميدانها بل المطارات بشكل أساسي، مع حضور فاعل لأشكال من القرصنة البحرية والبرية أيضا . وفي الحين الذي كانت الحروب تدار على النفط والثروات الأخرى، أمست الآن في عصر كورونا حرب على الكمامات الطبية، وأجهزة التنفس الصناعي، والمستلزمات الطبية الأخرى، وأصبحت الصين ودول آسيا مورِّدا لها، وهذه الحوادث من الكثرة بمكان لا يمكن حصرها ولكن سنستعرض بعضها على سبيل المثال، ففي سابقة تاريخية اتهمت ألمانيا الولايات المتحدة بالاستيلاء على 200 ألف كمامة مخصصة للشرطة الألمانية في مطار بانكوك عاصمة تايلاند بعد أن ضاعفت سعرها ثلاثة أضعاف، ما دفع وزير داخلية ولاية برلين وصف ما حصل، بأنه " وجه من وجوه القرصنة العصرية " ووصف التصرف الأمريكي هذا بـ "المتوحش". وفي حادث آخر، تمكن مشترون أمريكيون من الاستحواذ على شحنة كمامات تتألف من 60 مليون كمامة كانت في طريقها إلى فرنسا، التي تعد واحدة من أكثر البؤر خطورة في العالم، وكانت الكمامات على متن طائرة في مطار شنغهاي عندما ظهر هؤلاء المشترون ودفعوا ثلاثة أضعاف ما دفعه نظرائهم الفرنسيون . أما التشيكيون فقد استولوا على شحنة مماثلة من الكمامات الصينية يصل عددها إلى 110ألف كمامة، مرت بأراضيهم متوجهة إلى إيطاليا زعموا أنها مهرّبة، والسلوك نفسه أقدمت عليه السلطات التركية حين وضعت يدها على شحنة أقنعة ألمانية في طريقها إلى إيطاليا بحجة أن الشركة المورِّدة غير مسجلة عندهم . وفي مطار نيروبي عاصمة كينيا وقع حادث غريب من نوعه ، حيث اختفت بشكل غامض شحنة كمامات يصل عددها إلى ستة ملايين متجهه إلى أسبانيا . وعلى الصعيد نفسه، أعلنت تونس عن سرقة باخرة متوجهة لها محملة بالكحول الطبي المستخدم في التعقيم من دون معرفة الفاعل . وما يجدر ذكره في هذا السياق، أنَّ الدول التي اشتكت من القرصنة الأمريكية مارست القرصنة مع شركاء لها في الاتحاد الأوربي، فقد واجهت روما مشكلة مع باريس، حينما احتجزت السلطات الفرنسية كمامات اشترتها شركة الرعاية الصحية السويدية " مونيليكه " لصالح كل من إيطاليا وأسبانيا، وبعد تدخل الحكومة السويدية وافقت فرنسا على تسليم جزء من الكمامات المحتجزة . وفي ألمانيا التي هي من أوائل من أنتقد هذه السلوكيات، فقد صادرت الحكومة الألمانية 240 ألف كمامة كانت معدّة للتصدير إلى سويسرا . ولم يقتصر الأمر عند هذه الحدود وحسب، وإنما حدثت الحرب في أطار الدولة الواحدة، ففي الولايات المتحدة اندلعت حرب الكمامات بين الولايات والحكومة الفدرالية، وإن بعض الولايات الخاضعة لسيطرة الحزب الجمهوري ( حزب الرئيس دونالد ترامب ) حصلت على دعم أكثر مما طلبت بالقياس إلى الولايات ذات الأغلبية الديمقراطية التي تشكو من شح في الامدادات الطبية . وفي فلسطين المحتلة، اشتكى عرب اسرائيل من الاهتمام المتزايد باليهود على حساب العرب، وهذا السلوك مناف للدساتير والأعراف الانسانية والأخلاقية . وهذا غيض من فيض الحوادث التي لا يمكن التعرض لها جميعا في مثل هذا المقال المقتضب . أما الصين التي تمكنت من ايقاف زحف كيبود 19، فقد انتقلت من مرحلة المواجهة المباشرة مع فيروس كورونا إلى مرحلة مد يد العون إلى الدول الأخرى بعد عودة الحياة الطبيعية إلى مدينة "ووهان"، المدينة التي عرف فيها الوباء لأول مرّة، وإن كان هناك ثمّة تخوف مشروع من موجة ثانية للوباء ينبغي التحوط له، إلاّ أنّ الصين سارعت بتقديم مواد الإغاثة الطبية المتنوعة إلى أكثر من 100 دولة وكوادر طبية للعديد منها.
المثير للدهشة والاستغراب، إن هذه الدول، الأوربية منها على وجه الخصوص، لطالما تباهت بديمقراطياتها، وهي على أهبة الاستعداد لمد يد العون والمساعدة للدول المنكوبة والفقيرة، وهي ما انفكت تبشر بثقافتها وقيمها وتحاول نشرهما من خلال العولمة، فها هو فيروس كورنا يكشف عن زيفها وقبحها الداخلي التي حاولت وتحاول اخفائه منذ قرون دون طائل، فهي بنت مجدها على آلام الشعوب في المستعمرات، وسرقت قوتهم وثرواتهم، وهذا الوباء الفتاك المندلع فيها كحرائق الغابات الأخيرة في استراليا، كشف عن كذبة نهاية التاريخ، ودولة القطب الواحد، ولا زال الجميع لا يعلمون متى يصل الوباء إلى ذروته، وإن بدت علامات تراجعه في إيطاليا وأسبانيا، ولكن هناك تحديات لا تعرف عقباها، فجائحة كورونا تفرض على الأوربيين تساؤلات حول فاعلية اتحادهم، بعدما تبدّت أنانيتهم القومية بأبشع صورها، أما مصير سوق العمل والملايين من العمال العاطلين، وسوق النفط، والنمو الاقتصادي فهي في حكم المجهول، خصوصا ونحن على أعتاب كساد كبير ككساد الثلاثينيات العظيم .

عرض مقالات: