لسنا مع " نظرية المؤامرة " في مطلق الأحداث السياسية، سيما حينما يكون مبتغاها تغييب النقد الذاتي من قِبل الجهة الأساسية المتضررة من الحدث؛ على أن ثمة ثلاثة من أهم الأحداث الامريكية التاريخية يمكن القول بأنها تركت وراءها ظلالاً من الشك بهذا القدر أو ذاك حول المتسبب الحقيقي فيها، سواء أكان المتسبب هو الفاعل نفسه، أم كان مجرد منفذ وتقف وراءه قوى أو جهات غير مباشرة: 

الحدث الأول مقتل الرئيس الامريكي جون كيندي، والحدث الثاني مقتل شقيقه روبرت كيندي مرشح الرئاسة عام 1968، أما الثالث والأخير فيتمثل فيما بات يُعرف” أحداث سبتمبر 2011. ونحسب بأن جائحة كورونا " كوفيد - 19 " التي نحن شهود عليها هي واحدة من الأحداث التاريخية الكبرى التي مرت بتاريخ الولايات المتحدة والعالم.   

 وبطبيعة الحال ثمة ثغرات في وقائع أي حدث كبير تترك علامات استفهام عليها، ويجد فيها أنصار " نظرية المؤامرة "'ضالتهم للتشكيك فيمن يقف وراءها، فيصيبون أحياناً ويخطؤون في أغلب الأحيان، لكنها تظل فرضية قائمة ولو بشكل نسبي. وفيما يتعلق بالجائحة الراهنة تحديداً فقد بدأ فتيل اشتعالها من الصين بمدينة " ووهان " ليتمدد سريعاً كالنار في الهشيم حول العالم، واللافت أن المعارك السياسية والإعلامية حول تداعيات الحدث ما زالت محتدمة، بل ولم تتورع الامبريالية الاميركية في ظل قيادتها المهووسة الراهنة التي يمثلها دونالد ترامب عن شن حملة نفسية شرسة على الصين، ومع أن حليفاتها من الدول الرأسمالية الاخرى تسير خلفها بدرجات متفاوتة في هذا الاتجاه، إلا أن مواقفها لا تخلو من التناقضات بما يمليه عليها مصالحها.

وفي ظل تناقض المصالح تضاربت الأخبار المبثوثة حول الوباء المستشري الذي بدا غامضاً، بل ووجد الرأي العام العالمي نفسه أسير فوضى إعلامية عالمية عارمة غير مسبوقة منذ أحداث سبتمبر 2011، وبلبلة ضبابية شديدة حول حقائق الفيروس ساهمت في تشويش أذهان ليس شعوب العالم فقط، بل ونخبها السياسية بدرجة ما. وبإمكان المتابع أن يلمس هذا التضارب الحاد شبه اليومي، بدءاً فيما بين مواقف الدول الكبرى حول الجهة المسؤولة عن إشعال فتيل الجائحة، ومروراً بالسباق المحموم بين الدول الرأسمالية على تبشير العالم بابتكار اللقاح أو العلاج، بينما البشرية تسمع جعجعة ولا ترى طحيناً.  أكثر من ذلك فقد برز تباين بين الجهات الطبية لتلك الدول حول جدوى الكمام وسّبل الوقاية الاخرى، ناهيك عن استغلال الفيروس لتصفية الحسابات السياسية من خلال التشكيك في صحة أرقام الوفيات والإصابات، فكل دولة تحرص على الابتهاج بارتفاع عدد الإصابات والوفيات عند خصومها! 

وكانت الصين التي ظهر منها الفيروس أكثر دولة جرى التشكيك في صحة ما تعلنه من أرقام إصابات ووفيات؛ وبخاصة من قِبل غريمتها واشنطن التي أتهمتها أيضاً بأنها هي من تقف وراء ظهور الفيروس في " ووهان " لتسريه من مختبر للأبحاث البيولوجية فيها. على أن بكين آثرت الرد على مستوى سياسي منخفض ملقية التهمة على الولايات المتحدة، واكتفت بذلك دون تصعيد إعلامي خارجي، باستثناء ردود في إعلامها المحلي. ويبدو أنها اتخذت هذا الموقف لاعتبارات تكتيكية، إذ تخشى الصين في تقديرنا من تعرض مصالحها الاقتصادية للخطر إذا ما قررت واشنطن فرض عقوبات اقتصادية ضد الصين مشددة وتكثيف ضغوطها لحمل دول اخرى تقيم بكين علاقات جيدة معها بالحذو حذوها تماماً كما تفعل في حصارها على إيران. لكن ثمة أصوات امريكية معارضة لم تتوان عن توجيه انتقادات حادة إلى حكومة بلادها، ولعل أقواها ما سطّره المفكر اليساري الأمريكي نعوم تشومسكي، والراجح أن اسرار هذا الوباء الغامض لن يبقى طويلاً طلاسم إلى الأبد، وستُعرف حتماً أسراره كاملةً بعد زوال الجائحة نهائياً عن العالم.  

عرض مقالات: