توشك الصين على إعلان انتصارها النهائي على فيروس "كورونا " الذي نعتته منظمة الصحة العالمية ب  " عدو البشرية " ، ورغم ظهور حالات جديدة بعد عودة مواطنين إلى البلاد ، إلا أنها مازالت تحت السيطرة ولا تنذر بخطورة عودة كابوس الوباء  مجدداً ، فبعد قرابة شهرين من طوق العزل " الأمني - الصحي " المحكم الفعّال الذي ضربته السلطات حول مدينة " ووهان " - بؤرة انتشار  الفيروس -  والاجراءات الوقائية المشددة داخل المدينة  ، فضلاً عن تسخير  جيش  من أفضل الكفاءات  الطبية المتخصصة في البلاد ، عادت المدينة  إلى حياتها الطبيعية ، كما كانت ما قبل ظهور الوباء ،  والنسبة  المتبقية من الحالات  المصابة -إن وُجدت - فهي متوزعة في بعض الجيوب ؛ داخل المدينة أو خارجها في بقية ارجاء  الاقليم (هوبي ) . يحدث ذلك في الوقت الذي مازالت فيه دول غربية اجتاحها الوباء تصارعه بمشقة دون حسم سريع لمعركتها معه   ، وعلى الأخص إيطاليا  والولايات المتحدة وأسبانيا وفرنسا . 

والسؤال الهام الذي نطرحه هنا و المغيّب عن  ساحة معترك الصراع الفكري والسياسي الدولي الدائر حالياً   : لماذا تتعثر  مكافحة الدول الغربية المتقدمة صناعياً  للوباء  في حين تمكنت الصين في فترة وجيزة  من الاجهاز  على هذا العدو المفترس الذي أدخل البشرية برمتها في قلق ورعب ؟  

ثمة عاملان رئيسيان من العوامل التي مكنتها من تسطير ملحمتها في الانتصار على عدو البشرية :  

 العامل الأول /  خبرة الصين الطويلة في مكافحة الكوارث والأوبئة:  فالصين تمتلك  خبرة ثرية  تاريخية طويلة في كيفية التعامل السريع مع الكوارث والأوبئة الطارئة ، ولديها استعدادات مسبقة بشرية وتقنية تكنولوجية بأعلى مستويات الحرفية والاداء ،  ومنها على سبيل المثال الكوارث التي لحقت بها خلال هذين العقدين من ألفيتنا الجديدة . فما خلا كوارث البراكين فإن الصين تعاني سنوياً من أشد أنواع الكوارث الطبيعية المعروفة في العالم، وهي إلى ذلك تستفيد من كوارث البلدان القريبة منها، ككارثة الزلزال البحري" تسونامي " عام 2004 ، والذي تضرر منه تضرراً شديداً عدد من بلدان جنوب شرقي آسيا ، فهي لم تبادر إلى مساعدة هذه الدول فحسب ، بل تنبأت بوقوعه مسبقاً وأبلغت بعض تلك الدول به . وعلى الصعيد الداخلي شرعت بكين في الوقت نفسه  بتعزيز منظومة أجهزتها الإنذارية المبكرة للكوارث المتوقعة والطارئة غير المتوقعة  . علماً بأن الصين مرت بكوارث فيضانات بعض الأنهار في نفس عام كارثة التسونامي 2004 ، كما واجهت في العام نفسه كارثة أعصار على الشواطئ  الشرقية في مقاطعة تشجيانغ  ، فتدفقت السيول الجبلية محملةً بالطين والحجارة ، ناهيك عما سببته من انهيارات كبيرة عميقة على سطح التربة . 

وتقوم الدولة في مثل هذه الحالات بتخصيص معونات مالية من موازنتها تُقدّر بمليارات اليوانات ، بالإضافة لما تتلقاه  من تبرعات تفرضها على كبار أثريائها ، دع عنك آلاف الخيام التي تُنصب في سرعة قياسية لإيواء ملايين المنكوبين المتضررة مساكنهم ، عدا مساعدتهم في الكساء والغذاء والعلاج اللازم وغير ذلك .  وحتى في الاستثمارات المالية فإن واحداً من أولوياتها تُعطى للمستثمرين  في بناء وتطوير أنظمة الأنذارات والتنبؤات بوقوع كوارث طبيعية ، سواء أكانت وشيكة أم على المديين القريب والبعيد . أكثر من ذلك وضعت الصين منظومة حماية تشريعية شاملة ملزمة لمواجهة الكوارث الطبيعية .     

العامل الثاني / الانضباط الصارم للمجتمع تحت قيادة الحزب الحاكم : لا يختلف طبيبان في العالم حول أهمية العزل الوقائي المنزلي القصوى لتفادي كورونا ، وقد اتخذت كل دول العالم بلا أستثناء هذه التدابير ، وعلى رأسها الدول الكبرى الغربية الصناعية المتقدمة تكنولوجياً ، كالولايات المتحدة بؤرة الوباء راهناً، بيد أن جميع هذه الدول لم تستطع فرض هذا الإجراء على شعوبها بفعالية فرضاً شاملاً  كما فرضته الصين ، دع عنك دول العالم الثالث ، ومنها الدول العربية الأقل  التزاماً . على أن التزام مليار ونصف مليار إنسان صيني بهذا الاجراء ألا يُعد مدعاة للدهشة والتأمل ؟  علماً بأن تعداد سكان مدينة "ووهان " التي انطلق منها الوباء  يبلغ 11 مليوناً ونيف . إن السر وراء هذا الالتزام الآلي الأتوماتيكي بوقوفهم  وقفة رجل واحد في التقيد الصارم بالحظر والعزل الصحي  إنما يكمن في طبيعة النظام  الاشتراكي الشمولي الذي يقوده الحزب الشيوعي الحاكم منذ أكثر من 70 عاماً ، وخضوعهم  بالتالي لآلية احترام قراراته جبراً أو قسراً ،  فلا تنازعه أي أحزاب اخرى حول السلطة ، وكل مؤسسات المجتمع المدني خاضعة لتوجيهاته  ، وهذا ولّد مع مرور هذا الزمن الطويل آلية انضباطية " أتوماتيكية العادة " تعوّد عليها أفراد هذا الشعب  الكبير في احترام قرارات دولة الحزب الواحد . وبطبيعة الحال فإن ما ينطبق على الانضباط المفروض على المجتمع الصيني لاحترام قرارات وسياسات النظام السياسي، ينسحب تماماً بدوره على القرارات  غير السياسية المتعلقة  بحياة المجتمع أو المجتمعات المحلية أوقات الكوارث . وهنا يكمن بالضبط سر تميز النظام  الصيني الاشتراكي الشمولي في أزمة " كورونا " الوبائية العالمية الراهنة على أنظمة الدول المتقدمة الرأسمالية الغربية حيث فشلت في مضاهاة الصين في الانتصار الذي حققته على" عدو البشرية " في بلادها ، فإجراءات مثل محاصرة الفيروس بالعزل الصحي المنزلي ، أو حظر التجوال، هي اجراءات من سمات النظام القائم ، سواء في  أوقات  الاضطرابات السياسية أم أوقات الكوارث الخطرة  ، لكن كان لها مردود ايحابي كبير في محاصرة الفيروس داخل مدينة ووهان والأقليم  دون تنقله إلى سائر الأقاليم الاخرى ، مما سهل على الصين سحق العدو البيئي والانتصار عليه . 

هذا لا يعني أن النظام الاشتراكي القائم المشيّد على اسس شمولية هو النظام المفيد حصراً  لمواجهة الاوبئة ، إنما هذه ميزة قد تحققت موضوعياً على الجانب الصحي الوقائي والعلاجي  ، ولكن لا يعني في المقابل أيضاً استبعادها وعدم الاستفادة منها لتطبيقها، بصورة أو بأخرى ، من قِبل الأنظمة الديمقراطية الرأسمالية ، أو تحت حتى أي نظام يُشيّد على اسس اشتراكية إصلاحية جديدة مستقبلاً ولو بفرض مثل تلك الاجراءات في حالات قصوى طارئة ،كما هو الحال أوقات  الحروب وأعمال الشغب والتخريب الخطرة التي تلجأ إليها مجاميع من المحتجين في كل دول العالم  .

عرض مقالات: