بالتزامن مع بدايات اكتشاف فيروس كورونا، أواسط كانون الثاني / ديسمبر الماضي، أحتفل حلف” الناتو " في لندن بمرور 70 عاماً على تأسيسه، وقد كان مبرر تشكيله هو مواجهة ما أسماه المؤسسون بزعامة الولايات المتحدة” الخطر الشيوعي " الذي يمثله حسب مزاعمهم الاتحاد السوفييتي وحليفاته الدول الاشتراكية على أمنها، وحيث اضطرت هذه بدورها لتأسيس” حلف وارسو " عام 1955 لمواجهة خطر الناتو على أمنها.   وبعد انهيار أنظمة هذه الدول  تباعاً في الفترة ما بين أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات  ، أتفقت دول هذا الحلف على حله ، ومع ذلك لم يتم في المقابل حل حلف " الناتو " ، بل طفقت زعيمته  الولايات المتحدة  للبحث عن عدو جديد لتبرير استمراره خدمةً لأهدافها الكونية ، ومن ثم رسمت له مهاماً جديدة ، وكان من أبرز ها تلك التي  نفذها الحلف ، خلال الثلاثة عقود الماضية منذ انتهاء الحرب الباردة  العمليات العسكرية التي قام بها في البلقان  أثناء الحرب الأهلية  اليوغسلافية التي أفضت إلى تفتت يوغسلافيا السابقة إلى  عدة جمهوريات ، وعمليته الإسنادية العسكرية للإطاحة بنظام معمر القذافي في ليبيا 2011 ، ثم عملياته العسكرية في افغانستان، فمهماته العسكرية والتدريبية في العراق. واللافت لم يكن ضمن أجندة الاحتفال السبعيني للناتو أي بند يتعلق بتوقعاته واستعداداته لحماية أعضائه من خطر فيروس كورونا الوشيك الذي يهدد حياة شعوب دوله،  بل لم يرد أي ذكر عن هذا الخطر في كلمات أقطابه المتحدثين خلال الحفل، حيث كان التلاسن  اللفظي بينهم  هو السمة التي طغت عليه، وهكذا  فقد أثبت هذا الحلف بامتياز كما عكسته تلك المشاحنات  أن ما  يوحد دوله مصالح آنية أنانية ضيقة بعيدة كل البُعد عن مباديء الحرية والديمقراطية التي ظلت الدول المؤسِسة للحزب، وعلى رأسها الولايات المتحدة ،   تتشدق بها،  وبعيدة كل البعد عن أمن ومصالح شعوبها. والحلف الذي يصف منظمته كمنظمة دفاعية للدول الحرة الديمقراطية   لم يتردد عن ضم تركيا ذات الديمقراطية العلمانية الشكلية ، طمعاً في استغلال موقعها الاستراتيجي الواقع بين  الاتحاد السوفييتي ومنطقة الشرق الأوسط  لتشييد قواعد عسكرية فيها ومراكز وأجهزة تجسس ، حيث وُظفت هذه القواعد  لمساعدة إسرائيل عسكرياً ، وضرب حركات التحرر الوطني والانظمة الوطنية العربية حينما تستدعي الحاجة لتشغيل هذه القواعد لمثل هذه المهمات العسكرية  الطارئة ؛ وهو ما حدث بالفعل خلال منازعات وحروب متعددة ، بدءاً  من العدوان الاسرائيلي على الدول العربية في حزيران / يونيو 1967 ، وليس انتهاءً  بالحروب الاميركية على العراق إبان حكم الدكتاتور السابق صدام  حسين ، ثم استمرارها  كضربات انتقامية تأديبية خاطفة حسب العدو المفترض في أعقاب سقوطه منذ عام 2003 .

على أن تركيا ليست الدولة  الوحيدة غير الديمقراطية التي ضمها الحلف في عضويته ، بل لم يتوان أيضاً بعد انتهاء الحرب الباردة عن ضم عدد من  دول حلف وارسو السابق في عضويته أيضاً ؛ كبلغاريا والتشيك ، والمجر ، وبولندا ، ولاتفيا ، وغيرها من دول المعسكر الاشتراكي السابق في اوروبا الشرقية  ، وذلك بغية تطويق  روسيا بالأسلحة الاستراتيجية في عمق مجالها الحيوي السابق  ؛ رغم أن بعض هذه الدول التي تم ضمها لم  تجرِ  تحولات ديمقراطية حقيقية ، بل وتحكمها في الغالب نفس الطغمات الشيوعية السابقة التي أنسلخت من جلودها الماركسية وأعلنت تبنيها للنظام الرأسمالي الحر والحرية ، لتضمن دعم ورضا السيد الأميركي  عنها .  وهكذا بعد ما كان عدد دول الحلف زمن الحرب الباردة لا يتجاوز 15 دولة، أضحى عدده اليوم ما يقارب ضعف هذا العدد (28 دولة تحديداً).  

أما أعظم امتحان للحلف منذ تأسيسه على المحك للدفاع عن أمن وسلامة شعوب دوله فقد جاء في ظل جائحة كورونا الراهنة التي تجتاح معظم دول العالم ؛ فبينما كل جيوش الدول المتعرضة لكارثة الوباء تم توظيفها في أعمال الإغاثة، ظل الحلف مشلولاً وفي موقف المتفرج على محنة أعضائه تباعاً ، بدءاً من  ايطاليا، وهي إحدى الدول المؤسسة للحلف، وتوجد على أراضيها قوات أطلسية ، والتي كانت بؤرة تفشي الوباء في اوروبا بعدما أخذت مدينة " ووهان " الصينية في التعافي تدريجياً ليترك الحلف تركيا وحدها توجه مصيرها ؛ فلم  تتلق أي مساعدات لا من الحلف ولا من الاتحاد الاوروبي ، في حين تلقت  مساعدات طبية ووقائية صينية وروسية وكوبية ، ومروراً  بفرنسا وأسبانيا التي كانت أكثر تضرراً بعد ايطالياً ، وانتهاءً بقائدة الحلف  والقوة العظمى في العالم الولايات المتحدة التي أصبحت بؤرة الوباء في العالم على إثر ضربها رقم قياسي في عدد الإصابات (  81782 إصابة و 1100 قتيل ) حتى كتابة ذه السطور ،  لتتجاوز  بذلك حصيلة إحصائية ضحاياها حصيلة الصين ، والتي كانت البؤرة الأصلية لانتشار الفيروس في العالم ، وتوشك على التشافي النهائي منه .

والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: ماذا بعد فضيحة هذا الفشل المدوي الذريع لحلف " الناتو " في حماية الدول الاعضاء فيه والتي اجتاحتها جائحة كورونا تباعاً؟ هل يستمر بقاؤه بعد انتهاء الجائحة العالمية؟ أم يُتوقع، أن تصحو شعوبه وترفض استمراره بعد ما صّرف عليه منذ انشائه آلاف المليارات على حساب رفاهيتها الاجتماعية وخدماته الصحية التي لم تفٍ بمهماتها طوال الكارثة التي واجهتها؟ ذلك ما سيجيب عليه المستقبل القريب. 

  

عرض مقالات: