كثيراً ما نسمع هذه الجملة التي تشير الى بعض الأفعال او بعض التصرفات المرتبطة بالقول او الفعل او الإثنين معاً ، يطرحها معممون غالباً ،على انها تعليمات دينية او فرائض واجبة التطبيق دينياً او معتقدات لا يرقى اليها الشك تنحدر من التراث الديني وحياة السلف وتاريخهم. ومن نافل القول ان نذكر بان مثل هذه الظواهر موجودة في كل دين وتشكل ممارسات في كل مجتمع من المجتمعات وكثيراً ما يصفها ممارسوها او المقتنعون بها على انها دينية. إن ما يهمنا الآن ليست تلك الممارسات التي تشكل جزءً من حياة الشعوب الأخرى، بل تلك التي تغزوا مجتمعاتنا العربية والإسلامية ، خاصة في السنين الأخيرة التي بدت فيها سلطة الإسلام السياسي الإستغبائية اقوى بكثير من سلطة مَن تعتبرهم هذه المجتمعات يتحملون مسؤولية التوجيه الديني والإرشاد الملتزم بتعاليم لا بخرافات او سفسطات لا يقبلها اي عقل يعي طبيعة الحياة اليوم في القرن الحادي والعشرين.
تتردد عبارة " والدين منهم براء " في وطننا العراق ، بشكل خاص ، على تلك الإطروحات التي تمَيَزت بها الأجواء العراقية بعد سقوط دكتاتورية البعث التي مارست هذه الخزعبلات حين شعورها بالدنو من الهاوية التي حاولت الإبتعاد عنها بما سمته بالحملة الإيمانية التي جعلت من الدين سلاحاً آخر تضيفه الى اسلحة قمعها واسلوباً قذراً من اساليب ملاحقاتها الإرهابية.
وللإنصاف نقول ان الأجواء العراقية لم تكن جميعها بالمستوى الواحد الذي برزت فيه هذه الظواهر. ولعلنا لا نبتعد عن الواقع حينما نقول ان العامل المذهبي قد لعب دوراً في شدة او خِفة الظهور في وسط وجنوب العراق عنه في شمال العراق.
من المؤسف ان يجري التطرق الى هذا التصنيف المرفوض عملياً حين الحديث عن الوطن ودولة المواطنة وكل الشعب العراقي الذي يجسد هذه الدولة ويشكل كل فرد فيه مواطناً لا يفرقه الجنس او الدين او القومية او المنطقة عن المواطن الآخر على هذه الأرض الأم. إلا ان الواقع المؤلم الذي نعيشه اليوم تحت هذه الأجواء التي بدأت تزداد وتنشط بزخم اكثر لوجود من يغذيها بكل شيئ من ساسة دولة المحاصصات المقيتة التي تمارسها احزاب الإسلام السياسي ومساندوه من جهة ، ولعدم وجود قوى دينية تشكل مرجعية دينية تفرض ارادتها وتقف بوجه مثل هذه الممارسات ، التي هي ممارسات دينية بشكلها ومضمونها، وتمنع روادها من ممارستها والحد من نشاطاتهم التخريبية في المجتمع . إذ ان جُل ما نسمعه من المسؤولين عن الحفاظ على المسيرة الدينية في مجتمعنا هو التنكر لمثل هذه الممارسات والإشارة على انها لا علاقة لها بالدين وإن الدين من ممارسيها ، المعممين غالباً ، براء.
هذه الإشارات الضبابية غير المقنعة ، ترتبط بازدياد السيل الجارف من على منابر بعض المعممين والذي يهدف الى تمرير سيطرة الإسلام السياسي كونه يمثل مذهباً ما لابد من صيانته، لا من خلال العمل المسؤول والنزيه والمخلص من اجل الشعيب والوطن ، بل من خلال خرافات تستغبي الناس وتحد من فاعليتهم في المجتمع ،تنطلق من تفسيراتهم الغبية لبعض النصوص الدينية او تستند الى خلق الأكاذيب عن شخصيات او اماكن تتمتع بالقدسية لدى المشاركين في اللقاءات التي يقودها ويتصدر مجالسها هؤلاء المعممون المضَلِلون . إن استغلال القدسية لأشخاص او لمناطق معينة وجعلها تدور في بؤرة الخرافة والكذب الفاضح ، يمكن لأي انسان بسيط ان يكتشفه بمجرد سماع اقوال المعممين هؤلاء من فوق المنابر التي ينبغي ان تكون للمواعظ والنصائح لا لنشر الخرافات والخزعبلات التي ينفيها العقل وتعافها النفس البشرية ،وهي تؤدي بالنتيجة الى النيل من هذه الشخصيات التي يجعلها هؤلاء الخطباء المعممون فوق القوى البشرية بحيث لا يمكن لأي عاقل ان يتماشى معها ويحترمها كأقوال تليق بمقدسات. وهم في نفس الوقت ، وللتشديد من وقع هرطقاتهم وخرافاتهم في نفوس مستمعيهم الذين يشكلون الطبقات الإجتماعية المحرومة من كل شيئ ومن التعليم الذي يمكن ان يقود بعضهم الى تفعيل عقله للتفاعل مع هذه الأكاذيب ، يؤكدون لمستمعيهم وباسلوب ارهابي على المصير السيئ الذي ينتظر من لا يصدق بهذه الأقاويل او لمجرد وضعها موضع الشك ، داعين الى جعل هذه الخرافات التي ينشرونها عن الأولياء والأنبياء والصالحين كجزء من العقيدة وفرضاً لا يمكن التفريط به وإلا فالمصير المحتوم المرتبط بخرافات اخرى حول عذاب القبر والثعبان الأقرع ، وكأن الثعابين الأخرى تتمتع بتسريحات شعر تبهر الناظرين، وغير ذلك من الكذب المفضوح واللغو الذي لا طائل تحته.
كل هذه النشاطات المنبرية التي لم تجد الرادع الكافي لها من القائمين على صيانة الدين من الهرطقات والخزعبلات والتي طالما حذر منها الكثيرون كونها تؤدي الى استغباء الناس وتمهيد الطريق لسيطرة العقل الخرافي المتخلف على تصرفات الناس وسلوكهم ، وهذا من شأنه ان يساهم مساهمة لا تحمد عقباها في تأخر البلد والإبتعاد عن النشاط العلمي والتطور الحضاري والعمل على تغيير الواقع المزري الذي يعيشه الفرد العراقي تحت وطأة احزاب المحاصصات وخالقي الفتن التي تشكل اكسير حياتهم.
إلا ان الوضع الجديد الذي يعيشه مجتمعنا الآن والذي يعاني ، ككثير من المجتمعات الأخرى في العالم، من انتشار الأمراض المعدية ، فايروس كورونا حالياً ، التي اثبت العلم والتجربة فاعليتها وشدة خطورتها واشتداد الدعوة العالمية لإتخاذ اجراءات الوقاية والعلاج الصارمة تجاهها، في هذا الوقت الذي لا يمكن الإستناد فيه إلا على التجارب العلمية المفضية الى الإرشادات الصحية في الوقاية والعلاج، يخرج علينا بعض خطباء المنابر هؤلاء ليستهزؤا بكل ذلك ، داعين مستمعيهم الى عدم الإصغاء الى هذه التحذيرات والإكتفاء بترديد بعض الأدعية التي تزيل كل الأمراض وتقضي على كل الجراثيم، وغير ذلك من الدعوات لمواصلة التجمعات التي يعتبرونها محروسة بقدرة الهية لأنها تمثل استجابة للعقيدة. واشتدت دعوة بعضهم الى اجتناب المطهرات والمعقمات ، إذ ان الوضوء خمس مرات في اليوم سيزيل كل ما يعلق في اليدين والوجه من جراثيم او فايروسات وبالأخص فايروس الكورونا الشائع هذه الأيام.
إن مثل هذه الدعوات تشكل خطراً جسيماً على صحة الناس وتساهم بشكل فعال في انتشار الأمراض المعدية في المجتمع وبالتالي يتحقق ما ينهي عنه الدين نفسه حينما يؤكد على مبدأ : وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ[البقرة:195]. فكيف يمكننا التصدي الى هذا الخطر الصحي الآخر المرتبط بنشر الجهل الصحي بين الناس والمفضي في نهاية المطاف الى ازدياد الأوبئة وتعريض المجتمع الى خطر الإبادة الصحية بعد ان قاوم عقوداً طويلة خطر الإبادة السياسية من الحكومات المتعاقبة التي جثمت على صدور اهله.
لقد اثبتت السنين السبعة عشر الماضية ان احزاب الإسلام السياسي الطائفية بامتياز بسنتها وشيعتها واعوانها في الحكم من احزاب التطرف القومي والإنتماء المناطقي المتنكر للهوية العراقية ، بانها تشجع مثل هذه المنابر وتدعمها لأنها تشكل قاعدتها الأساسية في استمرار خداع الجماهير وابعادهم عن النضال الذي يقودهم الى التغيير والإصلاح الذي من شأنه رمي احزاب المحاصصات هذه في مزابل الوطن وتدويرها على شكل نفايات ضارة وغير صالحة للإستعمال. إذ ان هذه المنابر تؤكد على فهمها وتفسيرها المخادع للمقولة الدينية : قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ،والتي يفسرونها بعدم الإعتراض على ما يلاقيه الإنسان من امر محتوم في حياته وإن عذاب الدنيا سيكون جزاؤه ثواب الآخرة ، المبدأ الذي وطد فيه الأمويون اساس حكمهم. فمسألة انتظار اجراء حكومي رسمي للوقوف بوجه خطر انتشار الخرافات الدينية امر يكاد ان يكون في ابراج الغيب.
اما انتظار الردع من قبل القائمين على امور الدين ، بمختلف مسمياتهم ، فلم نر اي بادرة من هذا القبيل، بالرغم من الإساءات الفاضحة الى كثير من المقدسات التي وضعها خطباء المنابر هؤلاء موضع السخرية والإستهزاء من الآخرين .
وعلى هذا الأساس فليس امامنا إلا نشاط القوى المتنورة في مجتمعنا ، دينية وغير دينية ، لقيادة حملة توعية شعبية تساهم في ايقاظ البسطاء من غيبوبة الوهم الذي يضعهم فيه بعض خطباء المنابر الجهلة الذين لا يملكون ابسط مقومات الخطاب التوجيهي ، والحد من تأثيرهم على عقول الناس ، خاصة في هذه الظروف التي يحتاج فيها المواطن الى النصائح والإرشادات الطبية العلمية ، ومساعدة مجتمعنا على تخطي هذا الخطر ،على الأقل ، وللإستمرار في الثورة الشبابية المنتصرة لإزاحة ليس هذا الخطر فقط ، بل وكل ما من شأنه تقويمه وتقوية شوكته وعدم الإكتفاء بالترديد الببغاوي بان مثل هؤلاء المعممين لا يمثلون الدين والدين منهم براء.