منذ مدة وأنا أبحث عن مدخل يفتح أمامي السبل التي تهديني إلى أسباب ومسببات ما جرى للعراق ولشعبه وما يجري اليوم، والمعاناة المريرة والدماء الغزيرة التي سالت على أرضنا الطاهرة، وما تعرض إليه هذا البلد منذ قيام الدولة الحديثة عام 1921م على يد المستعمر البريطاني، بعد خمسة قرون من الهيمنة والتسلط العثماني والمرارة التي تجرعها العراق قبل ذلك على يد الغزاة المغول وقائدهم هولاكوا عام 1258 م واحتلالهم لبغداد التي كانت حاضرة الدنيا وقبلة العالم والباحثين عن المعرفة والحضارة الإنسانيتين.

وحتى لا نستغرق كثيرا ونغوص في بطون التأريخ عبر القرون السحيقة، وسأعتبر العقود التي مضت مدخلا لما أريد البحث فيه ومن جوانب مختلفة وبشيء من التبيان والتعليل من وجهة نظر شخصية بحتة، وسوف أتجرد من انتمائي الفكري وأزعم بأني سأكون محايدا قدر المستطاع.

الاستعمار الجديد أو ما يطلق عليه اليوم (الليبرالية الجديدة) وهي [مجموعة من المبادئ ذات توجه يخدم السوق، صممتها حكومة الولايات المتحدة الأمريكية والمؤسسات المالية التي تسيطر عليها الى حد كبير، في المجتمعات الأكثر ضعفا على شكل برامج وإصلاحات هيكلية] حسب نوعام تشومسكي.

بعد انتصار أمريكا والغرب عل ( المنظومة الاشتراكية والاتحاد السوفيتي ) في الحرب الباردة وعولمة النظام الرأسمالي وتكريس سيطرة الشركات العملاقة والعابرة للقارات ، على أسواق العالم والمؤسسات الاقتصادية المتمثلة ( بالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية ) ، التي تشكل أدوات تنفيذ السياسات الإمبريالية المتمثلة بالليبرالية الجديدة ، والغاية من ذلك لإضعاف دور الدولة الوطنية بفتح أسواق الدولة وحدودها أمام تلك الشركات الرأسمالية العابرة للقارات ، وعدم قدرت المنتج الوطني من المنافسة أمام المعروض من تلك الشركات ، والذي يؤدي حتما الى عدم قدرة الدولة بالوفاء بالتزاماتها أمام الشعب وإفشال الديمقراطيات الناشئة ، وتحويل البلد الى بلد مستهلك وغير منتج .

المشاكل التي يعيشها العراق هي مشاكل مركبة ومتعددة ومتجددة باستمرار!

منها ما هو ذو أبعاد خارجية، إقليمية ودولية ومنها ما هو داخلي، وهذه واضحة للمتتبع للمشهد العراقي، وعلى وجه الخصوص بعد الاحتلال الأمريكي للعراق في 9/4/2003 م وما حدث خلال السبع عشرة سنة.

التدخل الخارجي له شقين الأول ناتج عن الاحتلال الأمريكي الذي لم يلتزم بالقانون الدولي كونه بلد إحتل دولة ذات سيادة، يتوجب عليه حماية أرض وحدود ومياه وسماء هذا البلد، وحماية شعبه وعدم السماح بالتدخل الخارجي في شؤونه، وإعادة إعمار ما تم تخريبه أثناء العمليات العسكرية ونعني هنا الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا لم يحدث بل ترك الحدود مشرعة لكل من هب ودب.

الجانب الأخر هو العامل الداخلي ، وهو كذلك مرتبط بشكل أو بأخر بالعامل الخارجي .
بعد تدمير الدولة ومؤسساتها وعلى رأسها المؤسسة الأمنية والعسكرية بشكل شبه كامل ، وحلها على يد بريمر .

كان يتوجب على دولة الاحتلال وبمشاركة فاعلة ومباشرة من قبل الأمم المتحدة، بالبدء بإعادة بناء الدولة ومؤسساتها، وإعادة الأمن والسلام والاستقرار لهذا البلد، وعلى أساس دولة المواطنة (الدولة الديمقراطية العلمانية) على كامل الأرض العراقية وبإشراف ورعاية الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وهذا لم يحدث.

ترك الاحتلال لنا الفوضى والخراب والدمار والحروب الأهلية وإرهاب داعش، وإرساء نظام طائفي عنصري متخلف، فأشاع الظلام والفساد والمحاصصة وسمح بتدخل دول الجوار وفي مقدمتها إيران، وقيام ميليشيات طائفية عنصرية مسلحة خارجة عن القانون، تابعة لأحزاب الإسلام السياسي الذي يدين بالولاء لإيران.

وأقام لنا بدل عن (الدولة الديمقراطية المدنية!) أقام لنا دولتهم الدينية يقودها الإسلام السياسي الشيعي، على نمط وشاكلة دولة ولاية الفقيه في جمهورية إيران الإسلامية.

السؤال موجه الى الغرب والولايات المتحدة الأمريكية (الراعين للدولة الديمقراطية التي يتغنون بها قبل وأثناء الحرب وما حدث بعد ذلك !؟)،

أين دولتكم الديمقراطية التي وعدتم شعبنا وأمام العالم المتحضر وغير المتحضر؟

أنتم أقمتم في عراق الحضارات ومهد الحرف والكلمة، أقمتم لنا أسوء نظام ظلامي متحجر ومتخلف، كما كان يحكم أوربا في العصور الوسطى بل ربما أسوء منه بكثير.

السبب المباشر كما بيناه! هو النظام السياسي القائم وهيمنة شرائح طفيلية لا علاقة لها في بناء الدولة ولا حتى بالنمو الطبيعي للطبقات والفئات المجتمعية !..
جميعهم شرائح طفيلية يغلب عليهم الطابع القبلي والعشائري ويحمل بين طياته المجتمع البدائي ، أو على شاكلة النظام الأبوي الاقطاعي المتخلف .. أقول جميعهم [من العرب والأكراد والمكونات الأخرى، من الشيعة والسنة على وجه الخصوص].

هؤلاء ليس فقط لا يفقهون شيء في إعادة بناء الدولة بعد تدميرها على يد المحتلين ومن ساندهم ودعمهم، بل لا يرغبون في ذلك ولأسباب واضحة، كون إعادة بناء الدولة تحتاج الى أناس عندهم ضمير قبل كل شيء، وأن يكونوا وطنيون نزيهون ورجال دولة، صادقين ولديهم غيرة وحرص على بلدهم وعلى شعبهم، وهذه النماذج والخصال والإمكانات غير موجودة عند هذه الشرائح الطفيلية التي نمت وترعرعت في بيئة اجتماعية غابت عنها كل المعايير والقيم والأخلاق والمعايير الإنسانية الحميدة.

الجميع لا تهمهم مصلحة الشعب ولا الوطن أبدا !..
المهم .. كم يكسبون وينهبون ليملئوا بها جيوبهم وبنوكهم، ولا يختلفون على أي شيء له علاقة بالناس، ولا يشغلهم عيش الشعب وأمنه وسعادته ورخائه، فهذه جميعها خارج حساباتهم.

لكنهم يختلفون عند تقاسم الكعكة والمغانم والمناصب، وتراهم في كل تشكيلة حكومية جديدة تبدأ حرب البسوس، وكل يشهر سلاحه بوجه الأخر في سبيل نيل ما يريد من حصص ومكاسب، وليذهب العراق وشعبه الى الجحيم.

ومن لم يعجبه قولي ويعتبره إتهاما باطلا ويجافي الحقيقة، من تلك الشرائح الطفيلية الحاكمة، من الكرد والعرب والشيعة والسنة وغيرهم، ليأتي ويقنعني وشعبي بعكس ذلك فسوف أرفع له قبعتي وأُثني عليه.

كل من لم يحصل على مغانمه فإنه يعلنها حرب ضروس، ويهدد ويتوعد بمقاضاة الأخر وفق الدستور والقانون والأمم المتحدة، وربما يستعين بقوى خارجية لنصرته على أشقائه لاسترجاع حقوقه المنهوبة!!!؟؟

ما بيناه وما له علاقة بالقوى المتنفذة الفاسدة، المهيمنة على مناطق العراق المختلفة، هؤلاء الذين ساهموا وبشكل متعمد مع سبق الإصرار، بتعطيل كل منتج وطني، في الزراعة والصناعة والخدمات والسياحة، ليعود عليهم بالخير العميم، واستيراد كل ما يحتاجه العراق عن طريقهم ويعود ريعه وفائدته عليهم وعلى حاشيتهم، أقول كل شيء، مستمرين عليه منذ 17 سنة وحتى الساعة، فهم يستوردون الكهرباء والغاز من إيران، ولم يحاولوا بالرغم من كل تلك السنوات، من توفير الكهرباء والطاقة للعراقيين؟ لماذا؟

السبب معلوم ومفهوم، هذه عينة من المئات من عينات الفساد، مصرين على الاستمرار بتدمير المؤسسات الاقتصادية والصناعية والزراعية والخدمية، وشعبنا يعلم ما وصل إليه التعليم والصحة والخدمات والزراعة والصناعة ولا حاجة لتبيان ذلك.

اليوم ومنذ خمسة أشهر الملايين تجوب الشوارع وساحات الاعتصام والتظاهر التي انطلقت في الأول من تشرين الأول 2019 م ، لديها مطالب محددة ومشروعة وفق الدستور والقانون ، وذهب نتيجة تلك التظاهرات أكثر من 700 ضحية وأكثر من 27000 ألف مصاب ومعوق ومئات المعتقلين والمختطفين ، ومن تم اغتيالهم وتصفيتهم من قبل الميليشيات والعصابات الخارجة عن القانون وقوات مكافحة الشغب ، دون أن تكشف تلك السلطات الأمنية والحكومة ، عمن يرتكب تلك الجرائم ضد المتظاهرين السلميين العزل ، ناهيكم عن التسويف والوعود الكاذبة والمضللة التي تمارسها الأحزاب الحاكمة وحكومتهم ، ولليوم لم تحقق ولا مطلب من مطالب المتظاهرين ، من الخدمات وإصلاح الدولة ومؤسساتها وحماية الحقوق والحريات والديمقراطية المزعومة .

هناك على الساحة العراقية قوى ديمقراطية ومدنية ولكنها ما زالت في طور النمو، بما في ذلك قوى اليسار من الشيوعيين والتقدميين، ولهم نشاط ملموس، ولكن النظام القائم لم يدع فرصة إلا وحاول أن يغلقها بوجههم ويعمل كل ما في وسعه لتحجيم دورهم وتقويض نشاطهم ومحاربتهم ووضع الموانع والعقبات في طريقهم، هذه القوى تعمل في حقول ألغام زرعها في طريقهم النظام القائم، وهو رغم ذلك يسير مع الانتفاضة المباركة ويدعمها ويشارك فيها بشكل فاعل ومؤثر.

وحدة قوى اليسار تعتمد على الرؤيا الواقعية والموضوعية لما يجري على الساحة، للتقريب بين الفرقاء المختلفين وبروح المسؤولية تجاه الشعب والوطن.

لا شك بأن ضعف الطبقة العاملة وإنتاج الخيرات المادية للمجتمع ولقوى الإنتاج، ينعكس سلبا وايجابا على أحزاب الطبقة العاملة، فكلما تطورت الطبقة العاملة واتسعت قاعدتها وتنامى وعيها، فسينعكس ذلك على طلائعها الثورية الواعية والعكس هو الصحيح.

لا شك بأن دعم الانتفاضة والثوار هي مهمة وطنية تقع على عاتق الشعب بمكوناته المختلفة، وعلى الجميع أن لا يتخلفوا وخاصة في المناطق الغربية وفي كردستان العراق، وألا يتخلف أحد منهم.

مشاركتكم هو حق وواجب عليكم أن تنهضوا به، وتشاركوا بفاعلية ونشاط، وتمارسوا دوركم الطبيعي، وخاصة شريحة الشباب من كلا الجنسين.. هبوا للخلاص من هيمنة القوى الظلامية الفاسدة ومن أجل عراق ديمقراطي علماني اتحادي حر موحد مستقل.

هناك أمر لا يقل أهمية عما أسلفنا!

توحيد رؤيا الثورة وتحديد أهداف الثائرات والثوار شيء مهم، وسينعكس إيجابا على الوضع السياسي العراقي وتطوره.

على الساحات أن تطرح رؤيتها التي تقوم على الممكن، وما يوحد المتظاهرين والابتعاد عن كل ما يفرق جمعكم ويوحد كلمتكم، ويسمح لأعداء الانتفاضة بوضع أسفين في عجلة الثورة وهذا أمر مهم.

أعتقد.. على ساحات التظاهر أن يكون ضمن تلك المطالب ، على سبيل المثال لا الحصر :
المطالبة بالتالي :
1 - قانون انتخابات عادل ومنصف .
2 - مفوضية مستقلة قولا وفعلا .
3 - قانون أحزاب وطني وبرؤيا الدولة الديمقراطية العلمانية الوطنية الموحدة .
4 - يمنع قيام أحزاب على أساس ديني عنصري وقومي شوفيني .
5 - حصر السلاح بيد الدولة وإعادة بناء المؤسسة الأمنية والعسكرية وعلى أساس وطني مهني ومستقل .
6 - حل كافة الميليشيات والعصابات المسلحة والحشد الشعبي ومصادرة الأسلحة والمعدات التي بحوزتهم فورا .
7 - تشكيل محكمة خاصة لمحاكمة قتلت المتظاهرين وتعويض عوائل الشهداء والمصابين ومعالجتهم على نفقة الدولة .
8 - تشكيل هيئة عليا للتحقيق عن الفساد والفاسدين واستعادة الأموال المنهوبة والقصاص من السارقين والفاسدين والمرتشين ومن أثرى على حساب المال العام .
إصدار قانون من أين لك هذا وتطبيقه على كل من يشغل وظيفة في مؤسسات الدولة .
9 - تحديد موعد الانتخابات العام وبإشراف دولي والقضاء العراقي ومنظمات المجتمع المدني ، وتعلن النتائج فور انتهاء عملية الاقتراع منعا للتزوير والتلاعب بنتائج الانتخابات .