*في البدء:

لم أكن قد قرأت أيا من نصوص الشاعر الواسطي (علي نجم اللامي) قبل واقعة استشهاده الفاجعة. وكان ممن قدم إلى لجنة النشر في اتحاد الأدباء والكتّاب في العراق ـ التي أنيطت بي مسؤولية الإشراف عليها ـ مجموعة شعرية، اختار لها عنوان (خلف الضجيج ... وطن) ، وكنت راجعتها  ـ في بادئ الأمر ـ بعجالة لتنفيذ مقتضيات التقييم.

لم تمض سوى أيام قليلة حتى دهمنا نبأ استشهاد الشاعر، بعد خروجه من (ساحة التحرير) التي طالت مدة حضوره ومشاركته انتفاضة العراقيين فيها، وهو القادم من مدينته معبأ بحس الرفض وصحو التمرد ومسعى التغيير ورغبة الخلاص مما استبد بالوطن وأهله من سنوات الفشل والفساد والخراب الذي أشاعته تلك الفئات المهجنة الوعي والسلوك التي أضاعت مقدرات هذا الوطن ومستقبل أجياله.

عدت الى المجموعة ثانية، في رغبة لمعاينة كشوفات الذات الشعرية التي أنتجتها، واستنطاق متحققها، فهالني ما كانت عليه رؤى هذا الشاعر التي حملتها نصوصه من تماه مع واقعة الشهادة التي حصلت لاحقاً، ومساحة الاستشراف المتيقن لكثير من تفصيلاتها في رؤية صافية البوح، طال فيها الوقوف المتأمل والمكرور عند ما حصل للشاعر من استهداف علي يد زمرة غادرة استباحت وجوده الإنساني وأنهت مسار إبداعه الشعري.                         

(1)

طالما تبنى بعض الشعراء ودارسو شعرهم القول بمقدرة الشاعر على الحدس واستشراف القادم من الوقائع والأحداث بمجس نبوءة مرهف. وهم يضعون أيدي القول على أمثلة يجدونها في نصوص شعراء من مختلف العصور أخبرت عما سيقع لاحقاً، سواء على المستوى الشخصي للشاعر ذاته أو بما يتعلق بالمحيط الإنساني من حوله.

وتكاشفنا نصوص الشهيد (علي اللامي) الشعرية بما يماثل ذلك، فلقد تمثلت رؤاه واقعة استشهاده، وتداولتها قبل حصولها، مستشرفة كثيراً من تفصيلاتها، عبر مفردات تتكيف بالإدلال عليها وصور تتشكل لها على نحو لافت بين مساحة اشتغالاتها، حتى بدا حديث الموت وانتظاره (مهيمنة) دالة في كثير من تلك النصوص.

لقد ارتهنت مساحة كبيرة من اشتغاله النصي إلى واقعة الموت، حتى بدا تعبيره عنها صراع رؤى متشاجرة بين وعي يثير لديه أسئلة جريئة الطرح ـ تزاحمت في نصوصه ـ وواقع منخذل يخشى تلك الأسئلة، فيواجهها بحقد أرعن:            

"حين تحاصرني الأسئلة، تصطدم الإجابات، بفوهات البنادق، البنادق

المترصدة ..، فأنزف في جوف الأسى غيظي .(لِمَنْ هذه الطواحين ؟)

غير أن تيقنه الواعي يجعله غير مكترث لما سيكون، لأنه نذر نفسه لمهام نبيلة يسعى من أجل تحققها:

"لا أكترثُ كثيرا، لضجيجٍ صارخٍ في الرأس، عبثاً ينازعني الصبرَ،

فأنا ...، حارسُ قصائدَ جرفِ الشطِّ، ومنشوراتِ النور، رَصَدُ الفوهاتِ

المترصدة، والعيونِ التي تستغلُ الليلَ ..، سليلُ مواقدَ صدقٍ" . (لِمَنْ هذه

الطواحين؟)

كان الشاعر يتأمل موته بيقين مطمئن كاطمئنانه لما رسخ عليه وجوده القيمي الرافض لهيمنة ظلامية باتت تتسلل إلى كل ثنيات وجودنا المستباح:

"رأيتُ ...، أصابع كهنة الموت، تنشب أظفارها بخاصرة الشمس ،

وترميني بالزندقة!، وشياطين بثياب الرب ، يتلون القرآن، بأعقاب

رصاص الكاتم". (درب الشمس)

أولئك الذين كثيراً ما تحدث عنهم في نصوصه بسخرية لاذعة، كهذا النص المكتمل بسرديته:

"على قارعة طريق، يشبه مخلب غدر، ارتجف الرب بأوصالي يوماً، إذ

حاصرها باشط نصل، لقوم لا اعرفهم أبدا، صاحوا بأوداجي نهباً، ثأراً من

قوم لا اعرفهم أيضا!، في تلك اللحظة ...تهمة موت جاهزة كان الاسم، لكن

الصدفة عظيمة كانت، تلك التي وجدوا (كارل ماركس) فيها، مختبئاً تحت

إبطي، مختوما على جبهته (رأس المال)، أليس رائعا، أن يكون شفيعي

ــ في لحظة قربان ــ ملحد ؟!". (صاحوا بأوداجي نهبا)

لقد تواتر في معظم نصوص المجموعة التداول اللافت لذكر أدوات القتل وعدّة الاغتيال التي أمسى الشاعر أخيراً واحداً من ضحاياها:

ـ إن التعثر طريدةُ الكاتم، الكاتم الذي سرق نياشين الموتى، ليتسلط بها

على رقاب الناس".

ـ كُلَّ يومٍ .. وقبيلَ غروبِ الشمس، يستفيقُ الحزنُ كلُّه، يكتظُ رأسي بضجيجٍ

مخيف، كأزيزِ رصاصٍ في عتمة (زهرة حمراء)

وكانت مفارقة أخيرة قارب فيها الشاعر فكرة الموت ـ شعوراً واستعادات لفظية ـ حين أنهي مجموعته بنصوص قصيرة، بدا فيها وكأنه استشرف أن مهلة العمر لم يعد فيها ما يكفي لنصوص طويلة:

ـ كيف لي، لوم النوارس، على رحيلها؟، وضفةٌ (كاتم)، وأخرى ألم!

ـ منذ قرون من خسارات، أُلوّح لها، ولا تأتي، تتبختر كثيراً، رصاصة

الموت !!" .

هكذا كان بوح هذا الشاعر الذي سعى إلى إلقاء كلمته قفاز تحد بوجه من أحالوا أحلام وطن وأماني شعب نهباً لخراب يشبه ضمائرهم، أولئك الذين نالوا منه أخيراً، ليسقط شهيداً، تاركاً بين يدي التلقي نصوصه الشعرية وادعة تناجيه:

"هل قالتْ شيئاً دمعتكَ الأخيرة؟، هل قالتْ شيئاً؟، أم أن شظايا الخاصرة

أنين؟، سلاماً بُني، يوم ولدتَ، ويوم قُتلتَ، ويومَ رحلتَ بلا عينين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* صدر للشاعر الشهيد (علي نجم اللامي) المولود في مدينة العمارة 1969م، والمقيم طيلة سني

عمره اللاحقة في إحدى قرى محافظة واسط ـ قبل مجموعته هذه التي قدمها للطبع ـ مجموعة

شعرية واحدة هي: (ليست نبوءة ـ 2011م)، كما وردت بعض نصوصه ضمن مجموعة

شعرية مشتركة لعدد من شعراء محافظة واسط، حملت عنوان: (تراتيل بحضرة السدة)،

وصدرت عن اتحاد الأدباء والكتاب في واسط سنة 2012.

عرض مقالات: