ترجمة: رشيد غويلب

 اذا كان هناك توجه اساسي لدى روزا لوكسمبورغ، فهو التمرد ضد اي سيطرة على الانسان من قبل انسان آخر. لقد بين الفيلسوف الجامايكي سيلفيا وينتر كيف ان الحكم الاستعماري يقوم على التمييز بين نوعين من الناس ويسلسلهم هرميا ("انسان1 " و"انسان2"). ويتعلق الامر دائما بمسألة من تمنحه ومن لا تمنحه روحا وانسانية كاملة. ان مفاهيم لوكسمبورغ ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمشروع التغلب على هذا التمييز،باسم الممارسة الإنسانية، ، وبالتالي التغلب على الإمبريالية والاستعمار والرأسمالية.

   بودي فيما يلي تقديم فهم لروزا لوكسمبورغ بوصفها مناضلة نسوية اخلاقية. النسوية التي أتحدث عنها لا تتعلق فقط بالنضال من أجل حقوق النساء، بل تتجاوز فكرة بعينها عن "الإنسانية" (بن حبيب / استاذة فلسفة امريكية – المترجم- وآخرون 1994) وهكذا، فإن أفكار لوكسمبورغ عن التحول الاشتراكي ترفض ايضا  فكرة "انسان 1" و"انسان2" وعنصريتها. ان النضالات النسوية والمعادية للعنصرية مترابطة. لقد كانت روزا لوكسمبورغ سابقة لعصرها في دعوتها للتضامن مع نساء جنوب العالم. ولكن ماذا كتبت بالضبط عن "قضية المرأة"؟

 اتفقت لوكسمبورغ في عام 1912 مع قول تشارلز فوريير (منظر اجتماعي فرنسي 1772 -1837) بأن درجة تحرر الإناث تعد مقياسا للتحرر في العام. لقد ناضلت بلا كلل من أجل حق تصويت عام يشمل النساء. ومع ذلك، أشارت إلى التمايز الطبقي بين النساء: النساء البرجوازيات مستهلكات أولاً وقبل كل شيء، وبالتالي الرابحات من النظام، ولذا فإن مصلحتهن الطبقية موجهة ضد الاشتراكية. راهنت لوكسمبورغ على النساء البروليتاريات، اللاتي ناضلن في ذلك الوقت لنيل حق التجمع وتأسيس نقاباتهن الخاصة. ورأت لوكسمبورغ فيهن إمكانات لتحول اشتراكي وكانت مقتنعة بأنهن سيتعاملن مع التناقضات غير المعقولة للرأسمالية -مثل حقيقة أن أعمال الاناث المنزلية لا تنتج، على ما يبدو، قيمة للنظام الرأسمالي.

 وعلى اساس وجهة النظر هذه، فإن الراقصة التي تتمايل، والتي تجلب الأرباح إلى ربة العمل ، هي عاملة منتجة ، في حين أن الكدح الكامل لنساء وأمهات بروليتاريا بين جدران منازلهن يعد نشاطا غير منتج  . ان فهما    كهذا يبدو غير ناضج ومضحك حد الجنون، لكنه يتوافق تمامًا مع خشونة وجنون النظام الاقتصادي الرأسمالي الحالي، وان إدراك هذا الواقع غير الناضج بوضوح قوي هو الضرورة الأولى للنساء البروليتاريات "(المرجع نفسه ، 241 )

 العمل المنزلي والنساء في الرأسمالية

  لم تتبن   لوكسمبورغ مطالب بعض المناضلات النسويات الاشتراكيات بأعمال منزلية مدفوعة الأجر. وكان واضحا لها أن قوانين الرأسمالية ستدمر أي إنجاز على هذه الشاكلة. وفي تصورها عن الاشتراكية التي عبرت عنه بشكل خاص في رسائلها، سيكون ليس العمل المنزلي اشتراكيا  فحسب، بل سيعاد تنظيم عموم هيكلية العائلة التي تكرس اضطهاد المرأة. وستتطلب الاشتراكية التحويل الجذري لجميع العلاقات الانسانية. لذلك، أصرت لوكسمبورغ على أنه يجب على اي حزب شيوعي  السعي الى اهم شكل يمكن تصوره من الديمقراطية بعد الاستيلاء على السلطة. والنتيجة يجب ان تكون تشريك كل ما هو خاص اليوم.

 "في البروليتارية المعاصرة تصبح الانثى انسانا، فالنضال هو الذي يصنع الانسان، المشاركة في العمل الثقافي، المشاركة في صنع تاريخ البشرية. بالنسبة للمرأة البرجوازية المالكة، بيتها هو العالم. وبالنسبة للمرأة البروليتارية، فان العالم كله بيتها، العالم بمعاناته وفرحه، قسوته الباردة وعظمته القاسية "(لوكسمبورغ 1914، 410).

 ونظرًا لأن المسألة الطبقية بالنسبة لروزا لوكسمبورغ  كانت محورية، كان يمكن ان تشعر أن النقاش النسوي حول أخلاقيات العمل في مجال الرعاية في العقدين الأخرين من القرن العشرين ليست في محله. وكان يمكن ان ترفض مثالية القيم المرتبطة بعمل الانثى المنزلي في الراسمالية.لقد رات لوكسبورغ فيه "الجو الخانق لوجودها الضيق" (اي الانثى) او "غباء بائس وتفاهة منزلية سائدة"(المرجع السابق، 241).

  الجندر، "العرق" والطبقة

 لقد كان التضامن الطبقي، بالنسبة لروزا لوكسبورغ، يتضمن ايضا التضامن مع نساء جنوب العالم، اللواتي كان اضطهادهن جزءا لا يتجزأ  من الهيمنة الامبريالية. ونظراً لإصرارها على أن الإمبريالية من ثم الحرب ملازمة للرأسمالية، لهذا لا ينبغي أن يكون ذلك مفاجئا: "عالم الأنين الانثوي ينتظر الخلاص. هنا تئن زوجة الفلاح الصغير، وتكاد تنهار تحت وطأة الحياة. وهناك في افريقيا – الالمانية، في صحراء كالاهاري، تتآكل عظام نساء هريرو، اللواتي يسرع بهن الجنود الالمان الى الموت الرهيب، نتيجة الجوع والعطش. ووراء المحيط، وفي صخور بوتومايو العالية، تتلاشى صرخات موت نساء الهنود الحمر المعذبات، غير المسموعة من العالم، في مزارع مطاط الراسماليين العالميين. ايتها البروليتاريات، الافقر، والاكثر فقدا للحقوق بين فاقدي الحقوق، أسرعن للنضال لتحررن جنس النساء والجنس البشري من اهوال سيطرة الرأسمال. لقد ارشدتك الديمقراطية الاجتماعية الى مكان الشرف، أسرعي الى الأمام الى الخنادق!"(لوكسبورغ 1914, 412 والصفحات اللاحقة).

 ان المطالبة بالسلام، هي مطالبة ممكنة للنساء في شمال العالم وجنوبه. وبهذا كانت لوكسمبورغ واحدة من أوائل الذين أدركوا، أن اضطهاد السود ليس مجرد قضية ثانوية للرأسمالية، بل هي قضية أساسية بالنسبة للسيطرة الطبقية، كما هو حال كون العسكرة والعنصرية، جزء لا يتجزأ من سلطة الرأسمالية، لذلك لا توجد نساء لايطبق عليهن معيار "العرق". إن الجدل الدائر حول اولوية الجندر أو "العرق" أو الطبقة يتجاهل حجة لوكسمبورغ بأن الحرب ستقع ما دامت الرأسمالية موجودة، وأن النضال  ضد العسكرة يجب أن يكون دوما  جزءًا من النضال الاشتراكي.

 ولهذا السبب أسمي لوكسمبورغ مناضلة نسوية أخلاقية: ان مناهضتها للنخبوية نابعة من افتراض عدم وجود اناس من الدرجة الثانية، وينطبق الشيء نفسه على التسلسل الهرمي بين الأمم. وهذا هو أيضا أساس نقدها لمفهوم الحزب الطليعي. وبالنسبة إلى لوكسمبورغ، يجب أن يكون الحزب راسخًا في النضالات اليومية للجماهير، وهذا هو سبب رفضها لمفهوم المركزية عند لينين. "دعونا نقول صراحة: أن الأخطاء التي ترتكبها حركة عمالية ثورية حقًيقية، هي خصبة وقيمة تاريخيا وبلا حدود، أكثر من عصمة أفضل اللجان المركزية"(لوكسمبورغ 1904,444).

 متحدثة بمصطلحات اليوم للتحليل النفسي، توجه نقدها لفهم لينين وتروتسكي الهرمي للعلاقة بين الحزب والجماهيربوصفه" خيال ذكوري ": مجموعة صغيرة من الرجال تملك سلطة لتحمي حركة، لم تكتمل بعد، من الاخطاء.

 انتقدت لوكسمبورغ البلاشفة بعد الاستيلاء على السلطة في عام 1917، بشكل خاص، لدعمهم سياسة حق تقرير المصير. لقد رأت في القومية أداة مثالية لعودة البرجوازية المريضة إلى الهجوم. تذكرنا لغتها بنقد "فانون": (فرانز عمر فانون [ 1925 - 1961]  طبيب نفسانيّ وفيلسوف اجتماعي من مواليد فور دو فرانس - جزر المارتنيك - عرف بنضاله من أجل الحرية وضد التمييز والعنصرية –المترجم) للبرجوازية الوطنية في معارك حركات التحرير المعادية للاستعمار، والتي غالبًا ما تم فيها تبديل النخب وبقيت السيطرة على وسائل الإنتاج في أيدي ماليكيها البيض (فانون 1963).

هنا أصبح تقرير المصير القومي بالضبط الواجهة الفارغة التي تنتقدها لوكسمبورغ. وعلاوة على ذلك، ان ما أزعج روزا لوكسمبورغ في رؤية البلاشفة لحق تقرير المصير القومي، ان هذا النوع من القومية مرتبط دوما بالعسكرة الامبريالية. ولكن هذه لم تكن نقطة نقدها الوحيدة.

 الحرية والديموقراطية

 لقد دعا البلاشفة الى تشكيل جمعية تأسيسية منتخبة قبل تولي السلطة. لكن الانتخابات جرت في ظل ظروف صعبة، ولم يسمع بعد جزء كبير من سكان الريف أي شيء عن الثورة. ولم يحصل البلاشفة على الاكثرية، فحلوا الاجتماع تحت شعار "كل السلطة للسوفيتات". وعندما ضجت السوفياتات، جرى نزع سلطاتها. اقرت لوكسمبورغ بأنه في ظرف ملموس يفقد القانون الانتخابي معناه، لأنه يستبعد قطاعات كبيرة من الطبقة العاملة . ومع ذلك، فقد دعت إلى الاقتراع العام، على الرغم من كل المخاطر، ومع اعترافها بأنه احيانا قد يكون حرمان أجزاء من الطبقة الحاكمة من حقوقها ضروريًا. لكن تروتسكي ولينين شككا، بشكل متزايد، بالمؤسسات الديمقراطية في حد ذاتها.

 "وفقًا لنظرية تروتسكي، فإن كل جمعية منتخبة تعكس مرة واحدة وإلى الأبد الحالة الذهنية والنضج السياسي والحالة المزاجية لناخبيها في لحظة توجهم إلى صندوق الاقتراع فقط. وتبعا لذلك، فإن المؤسسة الديمقراطية هي دائما انعكاس لجماهير موعد الانتخابات. ومن ثم يجري هنا انكار كل صلة روحية حية بين المنتخبين لمرة واحدة والناخبين، وكل تفاعل مستمر بين الاثنين. (لوكسمبورغ 1918، صـ 354). وعدت لوكسمبورغ أن العكس هو الصحيح. وعلى الرغم من عدم اعتقادها بمستقبل دائم للجمعية التأسيسية بعد الثورة البلشفية، الا انها تحدثت بالضد من حلها بالقوة، ودعت إلى اجراء انتخابات جديدة. وطالبت توظيف المزيد من الوقت في التنظيم، لاقناع الناس بالنظام الجديد، وتعزيز الوعي الثوري للجماهير بواسطة المشاركة  في الانتخابات.

 ووفق فهم لوكسمبورغ يتطلب الانتقال إلى المجتمع الاشتراكي تحولا جذريا لكل فرد. وهذا الفهم يشبه حجة وينتر بأننا مرتبطون ماديًا بالنخبوية والعنصرية والتمييز الجنسي من خلال الطريقة التي يتم بها تنظيم حياتنا المشتركة وعملنا. وبالمقابل اعتقد لينين بإمكانية استعارة هيكلية الانضباط القاسية في المصانع الرأسمالية، وتوظيفها في بناء نظام إنتاج صارم. وهذا ما اعترضت عليه روزا لوكسمبورغ بشدة: يجب ان يتغير تنظيم العمل والأسرة، نعم، وحتى طريقة التفكير والحديث. عندما ننشأ في مجتمع رأسمالي، كما ترى لوكسمبورغ، فالاشتراكية بالنسبة لنا غير مفهومة.  ان السبيل الوحيد للوصول إلى هناك هو أوسع هياكل ديمقراطية ممكنة لا نحلم سوية داخلها فقط، بل نجرب أيضًا اشكالا جديدة للعيش والعمل. وان البرنامج الجاهز للجنة المركزية سيخنق الثورة. وكما هو معروف، حاول لينين أيضًا قلب الدولة الرأسمالية رأسًا على عقب لبناء دولة اشتراكية لا تضطهد العمال بل البرجوازية. وبالضبط، هذه هي العملية العكسية التي حذر منها "فانون" باستمرار. ان ابطال حركة التحرر المعادية للاستعمار، ليسو بالضرورة أفضل القادة في نظام ثوري جديد.

 بالنسبة إلى روزا لوكسمبورغ ، فإن الحريات الديمقراطية الأساسية مثل حرية الصحافة والتجمع والائتلاف ضرورية للغاية  لغرض التحرر الشخصي من علاقات الاستغلال.ان رفض هذه الحريات يعيق الخيال ويقف في طريق مؤسسات وأشكال جديدة للعيش المشترك في الاشتراكية.

 " الحرية لأنصار الحكومة فقط ، لأعضاء حزب واحد فقط - مهما كان عددهم - ليست حرية. الحرية هي دوما حرية اصحاب الفكر المختلف. ليس بسبب التعصب  لـ"العدالة"، بل لأن كل الحريات التعليمية المفيدة والصحية والتطهيرية للحرية السياسية تعتمد على هذا الجوهر، الذي ينتفي تأثيره عندما تصبح "الحرية" امتيازًا (لوكسمبورغ 2018 ، 214 ).

 وهذا يدعم مرة أخرى فكرة لوكسمبورغ عن التحول بوصفه عملية تحولنا كاشخاص وتحول علاقتنا الاجتماعية جذريا. و لا يمكننا ببساطة التنبؤ مسبقا بنتيجة هذه العملية ، بل يمكن أن تنتج عن فعل إبداعي هائل فقط. " ان الشرط الضمني لنظرية الديكتاتورية بالمعنى اللينيني - التروتسكي هو أن التحول  الاشتراكي هي مسألة وضع وصفة جاهزة في جيب الحزب الثوري ، الذي يحتاج حينئذٍ الى الطاقة فقط لتحقيقها. للأسف ، أوربما  لحسن الحظ ، ان الامر ليس كذلك. وبعيدًا عن كونه مجموعة من التعليمات الجاهزة التي على المرء ان يطبقها ، إن التطبيق  العملي للاشتراكية كنظام اقتصادي واجتماعي وقانوني هو شيء يقع بالكامل في ضباب المستقبل. ان ما نملكه في برنامجنا هو القليل من المؤشرات الكبيرة، التي تؤشر الاتجاه الذي يجب ان نبحث فيه التدابير،فضلا عن الكثيرالمتعلق بالطبيعة السلبية. ما نعلمه تقريبًا هو ما يتعين علينا إزالته أولاً من أجل تمهيد الطريق للاقتصاد الاشتراكي". (المرجع نفسه ، 215)

 لقد عدت لوكسمبورغ مفهوم لينين وتروتسكي لديكتاتورية البروليتاريا غير ديمقراطي. وكان مفهوم "دكتاتورية البروليتاريا"  بالاساس ما وصف به انجلس "كومونة باريس"، التي كانت تملك مؤسسات ديمقراطية، بما في ذلك رعاية جماعية للأطفال ،  تحت رعاية المربيات الذاتية. وأطلقت العنان لإبداع الجماهير المشاركة في العمل اليومي. لقد كانت الكمونة خلال عمرها القصير بالفعل ثورة دائمة ، وعملية دمقرطة شاملة.

  بالنسبة إلى لوكسمبورغ ، كان مفهوم الديكتاتورية خطأً ، من الناحيتين  النظرية والعملية. ان مركزية الحزب تؤدي حتما إلى الفساد لأن المصالح تصبح  اساس ولاء القاعدة للحزب، ولأنه يوطد الهرمية. وعلى عكس لينين وتروتسكي ، لم تر لوكسمبورغ الحل في تعزيز الانضباط الحزبي أوفي  تدابير مثل قوانين الحرب. ان على الثورة تحرير مثالية الناس،  لهذا، يجب الاعتراف بالإبداع بوصفه قلب الثورة الحقيقي .

 ولابد هنا من التاكيد على أن نقد لوكسمبورغ لم يكن ساذجًا على الإطلاق ، وأنها خاطبت لينين وتروتسكي كرفيقين لها. ودعمت شجاعة البلاشفة في استلام  سلطة الدولة وكانت مدركة للظروف الصعبة للغاية. وكان نقدها يهدف الى دفع البلاشفة لعمل الافضل، والى الخروج بنظرية عامة حول التحول إلى الاشتراكية.

  النسوية الأخلاقية وسلطة الوداعة

 لماذا عد نقد لوكسمبورغ للينين وتروتسكي نقدا نسويا؟  بالنسبة لي، كما قلت، لوكسمبورغ مناضلة نسوية أخلاقية لأنها ناضلت ضد أي هيكلية توزع الإنسان بين طبقة أولى واخرى ثانية، بما في ذلك هيمنة النخبة الحزبية. وبهذا المعنى، فان الثقة بالجماهير مبدأ نسويًا أيضًا. ان رؤية لوكسمبورغ للاشتراكية تتطلب تحوُّلًا دائمًا منا جميعًا -من الكائنات الرأسمالية انانية التمركز إلى الأشخاص الذين يعيشون مع بعضهم البعض باحترام، ويقدرون ذلك وهو ما أسميه "قوة الوداعة" مقتربة بذلك من الفيلسوفة الفرنسية دوفورمانتيليل. التي ترى ان الوداعة ليس بناءً فلسفيًا ولا علاقة اجتماعية، بل هو مفهوم يجعل شكلًا آخر من العلاقة ممكنًا بين البشر ، وكذلك بين البشر والكائنات الأخرى.

 "الوداعة  تخترع "الآن" الموسعة. نحن نتحدث عن الوداعة ، نعترف بها، نمضي بها، نجمعها، نأملها. إنها اسم لشعور نسيناه، وهي تنحدر من زمن، لم يكن الجنس البشري مفصول من العناصر بعد، عن الحيوانات والضوء والأرواح. متى اصبحت البشرية مدركة لها؟ مالذي كان يواجه الوداعة، عندما كانت الحياة والصراع من اجل البقاء متوحدة؟ (دوفورمانتيل 2018، 10)

 تقوم النسوية الاخلاقية على علاقة خالية من العنف تجاه الآخرين. ولايمكن حصرها باللاعنف، فاحيانا يصبح العنف ضرورة مأساوية، كما الحال في النضال المعادي للاستعمار.

 ولا ينبغي جعله، اي العنف، مثاليًا وحصره في عمل عدد صغير من الرجال. "فانون" وصف هؤلاء بوصفهم جزءا من عملية إعادة الهيمنة الذكورية والخيال المرتبط بها، حيث يمكن للرجل المضطهد، المستعمر أن يستحوذ على ذكورية الرجل الأبيض. ان ذلك محض خيال، لكنه يغذي سياسات الثورة المضادة.

 في"مزاعم نسوية" (مساهمة للكاتبة في كتاب مشترك مع اخريات – المترجم) حصرت مفهوم النسوية الاخلاقية بالعلاقات الشخصية، واليوم ساضيف اليها سلطة الوداعة. انها اجابة نسوية مهمة على نقد ما بعد الانسانيون للماركسية، التي يرون فيها تعبيرا آخر عن الغطرسة الانسانية، المعبر عنها، على وفق ماركس: "الاشتراكية هي انسة الطبيعة وتطبيع الانسان"، وبالتالي التغلب على الاغتراب في الراسمالية. هنا يجري اولا التركيز على العلاقات البشرية.  ولا يجر تناول السيطرة على الطبيعةBraidotti 2013) )

 الوداعة تُفهم أيضًا على أنها شكل من أشكال السلطة ، وتقودنا إلى رفض أي سيطرة  للإنسان على الكائنات الأخرى. يبدو أن هذا ما اشارت اليه لوكسمبورغ (1917b 333): " أعلم، انه بالنسبة لكل إنسان، وكل مخلوق حياته هي الشي الوحيد الجيد الذي يتمتع به لمرة واحدة، ومع كل ذبابة صغيرة يتم بلا مبالاة سحقها، ينحدرالعالم كل مرة، وبالنسبة لعين هذه الذبابة المنكسرة، يبدو كل شيء وكان انحدار العالم سيقضي على الحياة بأكملها. لا، ساحدثكن عن النساء الأخريات، لكيلا تسيئن ولا تستهينن بآلامهن، لكيلا تسيئن فهم انفسكن، ولا تشوهن صورتكن.  آه كم أفهمك حين تقولين إن كل نغمة جميلة، كل زهرة، كل يوم ربيعي، كل ليلة قمراء، توقظ فيك الرغبة والحنين إلى أجمل ما يمكن أن يقدمه هذا العالم".

 كان تعاطفها الشهير أيضًا مع فحل الجاموس الشهير في إحدى رسائلها من السجن (الذي كان السجان يضربه بقسوة، لإجباره على جر عربة مليئة بالأثقال – المترجم) وكانت تميل إلى أصغر الحيوانات مثل الحشرات ، التي لا يعدها الكثيرون كائنات عاطفية: "ومثل كل صيف، لدي عمل الآن: على أن أتسلق الكرسي ولفترة طويلة، وبالكاد أصل الزجاجة العليا، لامسك الدبور بعناية وأطلقه ثانية في الفضاء، وإلا فسيعذب نفسه في صراعه مع الموت على الزجاجة. إنهم (الدبابير) لا يفعلون شيئا ويقفون في الهواء الطلق على شفتي، ويبدأون  بالدغدغة ؛ لكني أخشى أن اؤذيهم، إذا لمستهم. وفي النهاية تنجح المهمة، وفجأة يصبح كل شيء هادئا في الغرفة. ويبقى يتردد في اذني وفي قلبي صدى مشمس"(1917a, 204)

 انها الوداعة التي تصفها لوكسمبورغ مرارًا وتكرار في رسائلها، بوصفها ممارسة انسانية، وهي ممارسة يمكن ان نعيشها في وحشية واقعنا اليوم. ان نسوية لوكسمبورغ الاخلاقية تعد جزءا لا يتجزء من كتاباتها في القومية والعسكرة، وكذلك تصورها لاشتراكية لا تتحدى فقط بربرية الراسمالية، بل ايضا النخبوية الضمنية لدى البلاشفة. ومن هنا يمكننا ان نفكربنسوية اوسع تتجاوز النضال في سبيل المساواة الشكلية، وتكون جزء من ممارسة انسانية تتحق في النضال الثوري. ولا ينبغي أن يُفهم نقدها اللاذع للحركة النسوية البرجوازية، بوصفها نقدًا للحركة النسوية بذاتها. لقد كان نقد ها موجها لامتيازات المرأة البرجوازية في المراكز الرأسمالية المرتبطة بالطبقة و "العرق". لم تعش لكسمبرغ فترة طويلة بما يكفي لتواكب الصراعات بشأن التحول الجنسي والمثليين، ولكن يبدو من الواضح أنها لاتحرم أي إنسان من كامل إنسانيته لأنه يريد أن يعيش أو يحب بشكل مختلف. كانت رؤيتها عن ممارسة انسانية جديدة متقدمة جدا على عصرها.

 *ترجمة للبحث المنشور في عدد كانون الثاني 2019 من مجلة "روزا لوكسمبورغ" للتحليل الاجتماعي الصادرة عن مؤسسة روزا لوكسمبورغ التابعة  لحزب اليسار الالماني.

 ** -دروسيلا كورنيل: استاذة علوم القانون والعلوم السياسة وباحثة في قضايا المرأة، وكاتبة مسرحية امريكية. عملت في العديد من الجامعات الامريكية، وتعيش وتعمل، منذ 2008 في كيب تاون في جنوب افريقيا. لها العديد من كتب والبحوث والمشاركات العالمية في مجالات اختصاصها. بدأت حياتها عاملة وكادر نقابي في قطاع الصناعات المعدنية.

   المصادر:

 Adler, Georg/Laschitza, Annelies (Hg.), 2013: The Letters of Rosa Luxemburg, New York

  • Benhabib, Seyla/Butler, Judith/Cornell, Drucilla/Fraser, Nancy, 1994: Feminist Contentions: A Philosophical Exchange (Thinking Gender), New York
  • Braidotti, Rosi, 2013: The Posthuman, Cambridge
  • Dufourmantelle, Anne, 2018: Power of Gentleness: Meditations on the Risk of Living, New York
  • Fanon, Frantz 1963: The Wretched of the Earth, New York
  • Luxemburg, Rosa, 1904: Organisationsfragen der russischen Sozialdemokratie, in: GW 1, Berlin, 422–446
  • , 1912: Frauenwahlrecht und Klassenkampf, in: Frauenwahlrecht, Propagandaschrift zum II. sozialdemokratischen Frauentag, in: GW 3, Berlin, 159–165
  • , 1914: Die Proletarierin, in: GW 3, Berlin, 410–413
  • , 1917a: Brief an Hans Diefenbach vom 5.4.1917, in: GB 5, Berlin, 203–204
  • , 1917b: Brief an Sophie Liebknecht vom 24.11.1917, in: GB, 5, Berlin, 333–335
  • , 1918: Zur russischen Revolution, in: GW 4, Berlin, 332–365