إن قراءة ممعنة في دلالات الانتفاضتين العراقية واللبنانية التي هبت في ثلاثة أقطار لتفضي إلى طرح على بساط البحث عما إذا الإسلام السياسي الشيعي في المنطقة قد بدأت بالفعل علامات اُفوله ، علماً بأن هذا المصير نفسه بات يواجهه الإسلام السياسي السني ، سواء النظامي الرسمي الخليجي أم الحركي الراديكالي المعارض ، فعلى صعيد الأول وخاصة كبرى دوله ، لم يعُد ما يطرحه من شعارات إسلامية تحمل مصداقية لدى شعبه ، وخاصة بعد أن عادت تجربة تصدير الجهاد إلى أفغانستان بدعوى نصرة شعبها المسلم ضد النظام اليساري الكافر والسوفييت المناصرين له في افغانستان بالوبال عليه بعد سقوط النظام اليساري وانسحاب السوفييت  ، فعاد الأفغان العرب بتشكيل " القاعدة "  بقيادة بن لادن لتنشر الارهاب في المنطقة والعالم ولتعطي أسوأ صورة عن الإسلام ، ثم خرجت من معطفها " النصرة " و " داعش " .. وهذه الأخيرة بدورها عاثت في الأرض فساداً بكل ما في التعبير من معنى ، حتى تفوقت في ضروب وحشيتها بإسم الإسلام على كل أشكال الجماعات البربرية التي عرفها تاريخ العالم  ، وإن ظلت تستمد اُسس عقيدتها من الايديولوجية  الرسمية الوهابية التي تربيت عليها قياداتها في رفض الآخر من المذاهب الإسلامية وأتباع الديانات الاخرى فأضحت تزايد عليها بإشهار اجتثاثه علنياً  .

وبموازاة ذلك سقط نظام البشير الدكتاتوري المؤيد من تنظيمات الإخوان المسلمين في العالم العربي والذي انقلب عام 1989 على حكومة الصادق المهدي  الشرعية المنتخبة بفضل الثورة الشعبية التي هبت منذ أواخر العام الماضي وتكللت بالنجاح نسبياً في الصيف الماضي بتوقيع مباديء حكم الفترة الانتقالية بين المجلس العسكري الانتقالي وقوى الحرية والتغيير . وقبل ذلك اندلعت ثورة شعبية في مصر نهاية النصف الأول من عام 2013  أسقطت تجربة سنة كاملة من حكم الإخوان المسلمين برئاسة الرئيس الراحل محمد مرسي الذي فشل خلالها سياسيا واقتصادياً في تحقيق مطالب ثورة يناير 2011 ، بغض النظر عن المآلات التي انتهت إليها هذه الثورة الثانية بعدئذ من حيث ما وُصف باختطاف العسكر لها وبأن ماجرى ليس سوى انقلاب عسكري وإنكار دور الثورة الشعبية في إسقاطه وإن كان قد اُجهضت مطالبها فعلاً هي الاخرى  .

وعودة للانتفاضتين العراقية واللبنانية ، فقد بات تواطؤ أحزاب الإسلام السياسي الشيعي في السلطة مع رموز الفساد المزمن على مدى 15 عاماً ونيفاً ، بل انغماس رموز قيادية في مستنقعه مما يشهد به القاصي والداني ، والأهم من ذلك لم يعُد تغطيه ورقة التوت أمام مرأى ومسمع أوسع قاعدة من الجماهير المسحوقة المعدمة التي طفح بها الكيل فهبت ثائرةً إلى الساحات مطالبةً بإقتلاع المنظومة السياسية القائمة برمتها ، ولم تعد تنطلي محاولات دغدغة مشاعرها  بالشعارات الدينية المذهبية لإقناعها بجدوى المحاصصة الطائفية لنيل حقوقها المعيشية والسياسية في ظل  مليارات الدولارات التي شفطتها حيتان الفساد سواء بضلوع رموز قيادية لتلك الأحزاب كما ذكرنا  أو بتواطؤ وصمت من قِبلها ، وهذا يجري أيضاً بعلم وصمت الجارة الجمهورية الإسلامية مادام هذا الوضع القائم يخدم مصالحها ويأبّد نفوذها ووصايتها على مقادير الحياة السياسية والإجتماعية والدينية في العراق ، بما في ذلك  دورها بين الكواليس في مشاورات تشكيل الحكومات واعتبارها الحكَم والوسيط في أي أزمات حكومية طارئة فيُحج إلى عاصمتها رؤساء الحكومات أو الوزراء طلباً للتسوية أو ترسل مندوباً إلى العراق لهذا الغرض مالم تُكلف  أحداً من ممثليها الدبلوماسيين أو أحد جنرالاتها العسكريين بذلك .

ومن هنا يمكننا فهم المقاومة الضارية التي ما فتئت تبديها السلطة القائمة ضد الثوار السلميين ومحاولتها المراهنة على عامل الوقت بإنهاكهم أو تسويف مطالبهم والمناورة حولها  ، ومن خلفها تقف الجمهورية الجارة الداعمة  لها  من خلال اخطبوط إعلامها العربي ،  وذلك لشيطنة وتشويه أهداف الانتفاضة الشعبية الباسلة المشروعة للمطالبة بحياة كريمة تشمل حق الرغيف وحق العمل والسكن والعلاج والكهرباء والماء ، ذلك بأن هذه السلطة القائمة  تعي جيداً بأنها إذ تمثل واجهة لمنظومة أخطبوط فساد معقدة ومتغلغلة في مفاصل الدولة ومؤسسات اجتماعية وثقافية ودينية متعددة إنما تخوض معركة مصيرية ، فنجاح الثورة في تحقيق مطالبها من شأنه أن يطيح ليس بها فحسب بل وبالتحالف غير المقدس بين أساطين الفساد المتشابكة مصالحهم مع الأحزاب الإسلامية داخل الدولة ، فسقوط النظام السياسي أو السلطة القائمة ستتبعه حتماً إستعادة ليس المال العام المنهوب فحسب ، بل وتقديم أصحابه إلى المحاكمة العادلة ، دع عنك جرائمهم  ورموز السلطة في قتل الشباب الأعزل المنتفض ،  حيث تم قتل مئات الشهداء العزل المسالمين  خارج القانون بدم بارد إما بأعذار واهية وإما بالتبرؤ من المسؤولية برمتها وألقاء تبعيتها على "  طرف ثالث " مجهول !

أما فيما يتعلق بالانتفاضة اللبنانية  فنظراً  لسلميتها ومطالبها العادلة ، ولكون جماهيرها أيضاً ينحدرون من مختلف الانتماءات الدينية والمذهبية فقد أحرجت الحكومة القائمة وكذلك حزب الإسلام السياسي الشيعي  ( حزب الله ) الذي يحتكر وحده السلاح ويستمد نفوذه وشرعيته من حمله لواء " المقاومة " ضد إسرائيل والتي يصر على تسميتها " المقاومة الإسلامية " مع أن لبنان متعدد الطوائف والديانات ، فالمقاومة ضد الاحتلال أو دفاعاً عن الاوطان هي مقاومة وطنية لا ينبغي إعطائها لوناً دينياً بإسم شعب  متعدد الديانات  ، فظهر قائده في باديء الأمر بمظهر المبارك لشرعيتها  مبرراً عدم مشاركة حزبه فيها لكي لاتتُهم بأن وراءها مرجعيته المقدسة وداعمته الأولى " الجمهورية الإسلامية "  ، إلا أنه سرعان ما أعلن في خطابه الثاني تشكيكه في الانتفاضة وأتهم سفارات بدعمها والوقوف خلفها ،  ورغم أنه سبق أن أعلن بأن حزبه لن يشارك فيها فاجأ الناس في خطابه الثاني بوجود أنصار ومحازيب لتنظيمه  بين المنتفضين مطالباً إيْاهم  بالإنسحاب من الساحات ،  وهذا جرى بعد سلسلة اعتداءات واستفزازات موثقة قام بها هؤلاء بحق المنتفضين . وبطبيعة الحال لم يتوانَ القائد من رفضه تغيير الحكومة و منظومة المحاصصة  الطائفية القائمة والمطالبة بالإصلاح في إطارها في حين أتسع الفتق على الراتق ، فالكل يعلم تحت سقف منظومة المحاصصة الطائفية  التي بفضلها ظل ومازال يعشش فيها الفساد المزمن أصبح الإصلاح مستحيلاً ومحاولات القيام به عديمة الجدوى ، ولا شك بأن تمسك حزب الله باستمرار هذه المنظومة  يفسره مخافته من تغيير الوضع القائم ، فالمنظومة السياسية القائمة وفي ظلها التشكيلة الحكومية الحالية برئيس وزراء ضعيف ورئيس جمهورية حليف ورئيس برلمان هو بمثابة حليف استراتيجي ومن نفس الطائفة ، رغم تربعه على منصبه منذ ما يقرب من ثلاثة عقود ، كل ذلك يُعد بمثابة وضع مريح للحزب لفرض سياساته على البلد بإسم " المقاومة " ، وكل من يبدي رأياً مخالفاً لها بهذا القدر أو ذاك فهو إنما ينفذ الأجندات الامريكية والاسرائيلية المتآمرة على "المقاومة " . صحيح أن خطابه الثاني الذي عمِد أنصاره ببثه في ساحات المنتفضين قد أحدث بلبلة في صفوفهم وتراجعاً نسبياً في أعدادهم ، لكن ذلك لم يحل بعدئذ دون استمرار  وتيرة وزخم الاحتجاجات حتى الساعة ، والأهم لم يحجب ثمة ثلمة لحقت بصورة الحزب في أعين شريحة غير قليلة من الناس الذين صعِب تضليلهم بتبرير خذلان انتفاضتهم لتمتعهم بوعي عال . 

وأخيراً فلعل انتفاضة البنزين التي تفجرت أخيراً في إيران حيث نموذج الإسلام الشيعي الحاكم الملهم لكل قوى الإسلام السياسي الشيعي العربي جاءت لتبرهن بقوة على عمق الهوة والأزمة  اللتين تفصلان الطبقة الدينية الحاكمة عن الشعب ، وبما أن هذه الإنتفاضة ليست الأولى من نوعها التي يجري قمعها ، وحيث أخمدت الأخيرة سريعاً بوحشية راح ضحيتها أكثر من مئة متظاهر ، وبخاصة خلال أيام قطع الإنترنيت ، فإن كل ذلك يبرهن على فشل أول نموذج لنظام الإسلام السياسي الشيعي الشمولي والقائم على " ولاية الفقيه " وخرافة تبنيه الديمقراطية . على أن كل تلك الإنتفاضات المتوالية ما هي إلا بروفات تنبيء بقرب انفجار ثورة شعبية قادمة لا محالة ، عاجلاً أم آجلاً ، لاستنفاد قدرة النظام هذا الثيوقراطي الاستبدادي الذي نخره الفساد على حل الأزمات المعيشية والإقتصادية التي تعصف بالشعب والوطن في ظل إصراره على حلها وفق شعاراته الخشبية  الدينية المستهلكة التي مضى عليها أكثر من أربعين عاماً .     

عرض مقالات: