تحت هذا العنوان اصدر الكاتب الاقتصادي فؤاد قاسم الامير كتابه الجديد، مراجعة ماجد علاوي ، ويعد هذا الكتاب إسهامة جديدة الى جانب المساهمات الكثيرة على النطاق العالمي الموجهة الى توجيه النقد الى اطروحة فرانسيس يوكوهاما التي نشرت تحت عنوان (نهاية التاريخ والانسان الاخير) في مجلة ناشيونال انترست عام 1989 بعد سقوط جدار برلين (وهو من أصل ياباني عالم وفيلسوف واقتصادي سياسي يعمل في مركز الديمقراطية والتنمية وسيادة القانون في جامعة ستانفورد الامريكية وكان من المحافظين لكنه تخلى عنهم في فترات لاحقة). هذه الاطروحة فهمت بمعاني مختلفة بعد الانهيار الدراماتيكي للمنظومة الاشتراكية في نهاية ثمانينات القرن الماضي غير ان صاحب الاطروحة تحاشى الدخول في عمق الاسباب الذاتية والموضوعية لانهيار تلك المنظومة بل حاول إسقاط فكره المحافظ على تحليلاته عن اسباب الانهيار.
وهذه الاطروحة اوقعته في مطبات فكرية قادت الى طائفة من الانتقادات الشديدة من كتاب وفلاسفة واقتصاديين سياسيين في مختلف انحاء العالم ومنهم بيرني ساندرز عضو الحزب الديمقراطي الامريكي المرشح لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية في انتخابات عام 2020 الذي يؤكد (ان الثورة الاصلية لليبرالية الجديدة المسلطة على رأسمالية الشركات العالمية المتحررة من الضوابط هي الانشطة المالية – التجارية لهذه الشركات عابرة القومية) من هنا يأتي الكتاب موضوع بحثنا إسهامة جديدة في نقد الرأسمالية الجديدة حيث سعى الكاتب الى نقد النظام الرأسمالي بحلته الجديدة المعولمة المتوحشة .
الكتاب يتكون من مقدمة وثلاثة فصول. ففي المقدمة توقف الكاتب عند حالة القلق التي يعيشها الرئيس الامريكي دونالد ترامب في الولايات المتحدة الامريكية من الدعوات الجديدة لتبني الاشتراكية لان امريكا حسب زعمه تأسست على الحرية والاستقلال وليس على اكراه وهيمنة وسيطرة الدولة ويجدد زعمه على ان امريكا لن تكون ابدا بلدا اشتراكيا. وفي مقدمة تقرير بعنوان اكلاف الاشتراكية صدر عن مجلس الاقتصاديين الاستشاريين وهو المجلس الاقتصادي الاعلى التابع للبيت الابيض ، مع ا لذكرى المئوية لميلاد كارل ماركس وفي هذه الذكرى تعود الاشتراكية الى الخطاب السياسي الأمريكي فهناك اقتراحات لسياسات يطرحها من يطلقون على انفسهم اشتراكيين وهي تحظى بدعم متزايد في الكونغرس وبين الكثير من الناخبين الامريكيين ويطول هذا التقرير الانظمة الصحية الاجتماعية التي يطالب بها اليسار الامريكي وفي محاولة للبرهنة على تفوق الاقتصاد الامريكي الرأسمالي الليبرالي على اقتصاد الدول الاسكندنافية الاشتراكية .والتقرير يعتبر اقتصادها اقتصادا اشتراكيا والذي يرد عليه الاقتصادي الامريكي بول كروغمان الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد بان توزيع الدخل في البلدان الاسكندنافية افضل منه في الولايات المتحدة الامريكية .

نتائج مدمرة

اثبتت الليبرالية الجديدة انها حققت نتائج مدمرة على ارض الواقع وفي معظم مواطن تطبيقاتها وان ما يدفع للكتابة عنها هو استمرار التمسك بها عند بعض الاقتصاديين والمثقفين والعديد من السياسيين العراقيين الحاليين بشكل او بآخر عن جهل او معرفة هذا ما تم استنتاجه من الكاتب فؤاد الامير واعرب عنه في مطلع كتابه معتبرا ان استمرار التمسك بهذه السياسات هو اما غير منطقي نظرا لما سببته الليبرالية الجديدة وازمتها من آلام للبشرية كلها، وتدمير اقتصاديات الكثير من البلدان النامية واضعاف اقتصاديات الدول المتقدمة والاقتصاد العالمي خاصة بعد الازمة العالمية في عام 2008 وان دعاة هذه السياسات في العراق مستمرون في الالتزام بها تحت ذريعة ان الدستور العراقي نص على ذلك او بضرورة ما يسمونه (الاصلاح الاقتصادي) وكأن الاحتلال وسياسته الاقتصادية جاء لحماية وتنمية القطاع الخاص العراقي .

الاصلاح الاقتصادي ...والدستور العراقي

في الفصل الاول من كتابه يتوقف الكاتب فؤاد الامير عند منظومة من التسميات التي شاعت في الصحافة والاعلام وحتى في الادبيات الاقتصادية مثل العولمة والانفتاح والسوق الحرة والرأسمالية الجامحة والرأسمالية المالية هي جزء من نتائج الرأسمالية .وان ما يقدم من نصائح صندوق النقد الدولي والبنك الدولي انما هي نصائح ملغومة ادت في التطبيق في كافة الدول باستثناء الصين الى تخريب اقتصادي وليس الى اصلاح اقتصادي ويتجسد هذا التخريب اولا في خصخصة القطاع العام وهو المطلب الرئيس لسياسات الليبرالية الجديدة وثانيا الانفتاح الكامل على دخول البضائع الاجنبية وبالتالي انهاء الاقتصاد الحقيقي الانتاجي في الصناعة والزراعة وثالثا ضغط الدول الرأسمالية الكبرى والمؤسسات العالمية على حكومات الدول النامية بإلغاء او رفع او تقليل الانظمة والقوانين التي تحمي المواطن والطبقات الفقيرة مع ما يرافق ذلك كله من فساد كبير لخدمة الفئات المتنفذة والمنتفعة من هذا النظام الاقتصادي وقد شمل هذا الأمر جميع الدول النامية في أمريكا الجنوبية والوسطى ودول اسيا وافريقية وعلى رأسها مصر وجميعها انتهت الى غرق في الديون واقتصادات محطمة وتفاوت طبقي هائل ونهب منفلت لثروات البلاد فضلا عن خصخصة لمعامل الدولة ومنشآتها الانتاجية والخدمية .وفي الوقت الذي يبرر واضعو السياسة الاقتصادية تدابيرهم الاقتصادية بالاستناد الى الدستور فقد ناقش الكاتب هذه الحجج بمراجعة النصوص الدستورية ذات الصلة مشيرا الى ان الدستور العراقي رغم انه جاء حمال اوجه الا انهم حاولوا تفسير النصوص الدستورية بما يسمح لهم يوضع الاقتصاد العراقي على سكة الليبرالية الجديدة وعرض النصوص الدستورية ذات الشأن بما يلي :-- المادة (35) :--تكفل الدولة اصلاح الاقتصاد العراقي وفق اسس اقتصادية حديثة وبما يضمن استثمار كامل موارده وتنويع مصادره وتشجيع القطاع الخاص وتنميته.
المادة (26): --تكفل الدولة تشجيع الاستثمارات في القطاعات المختلفة وينظم ذلك بقانون.
المادة (27): -- اولا – للأموال العامة حرمة وحمايتها واجب على كل مواطن.
ثانيا –تنظم بقانون الاحكام الخاصة بحفظ اموال الدولة وادارتها وشروط التصرف فيها والحدود التي لا يجوز فيها النزول عن شيء في هذه الاموال.
وتوصل الكاتب الى ان المسألة المهمة التي يجب ادراكها هي حتمية ان يكون القطاع العام القائد في الاستثمار في العراق لسبب واضح وهو ان جميع موارد البلد وثروته بيد الدولة وان الطريق الصحيح في تراكم الثروة وادارتها الصحيحة هو التوسع والنمو في الاستثمار في كل القطاعات وبدون الاستثمار ستضيع الثروة في الرواتب والاجور والبطالة المقنعة والاستثمارات غير الضرورية وغير المنتجة ناهيك عن السرقة والنهب والتبذير. لهذا فان الاستثمار الحكومي امر لابد منه لإدارة الثروة.
وفي هذا الفصل توقف الكاتب عند شرح وتوضيح العديد من المفاهيم والمصطلحات الاقتصادية ومنها اقتصاد السوق والسوق الحر واقتصاد السوق الاجتماعي واقتصاد السوق الاشتراكي والانفتاح الاقتصادي والرأسمالية المنضبطة او الكينزية وأنهى الكاتب هذا الفصل بالتوقف عند منظمة التجارة العالمية والرأسمالية المنفلتة والرأسمالية الجامحة والدولة الريعية ودولة الجبايات او الضرائب والعولمة والرأسمالية المالية ، متوقفا عند كل مصطلح من هذه المصطلحات شارحا بالتفصيل مضمونها النظري وتطبيقاتها على الارض والآثار السلبية المترتبة عليها واختتم الكاتب هذا الفصل بشرح التقسيم السياسي للمجموعات والاحزاب العالمية التي تضم اليسار بمختلف تسميات قواه من الماركسيين والشيوعيين والاشتراكيين الديمقراطيين، والديمقراطيين الاجتماعيين والجماعات السياسية والاجتماعية التي تدعو الى العدالة الاجتماعية والمساواة العرقية فيما يضم اليمين الاحزاب والمجموعات الديمقراطية المسيحية في اوروبا والليبرالية الاوربية والمحافظين، والمحافظين الجدد، والاحزاب الفاشية والرجعية وهؤلاء الأخيرون هم من يؤيدون الرأسمالية الليبرالية الجديدة والهيمنة الامريكية .

الرأسمالية المنضبطة

توسع الكاتب كثيرا في شرح الرأسمالية المنضبطة والتي تسمى في بعض الاحيان بالليبرالية المقيدة او المطوقة (embedded liberalism) وهي الرأسمالية التي كانت سائدة في العالم الرأسمالي المتقدم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى اواسط سبعينات القرن الماضي ونظرا لنجاحها الباهر اقتصاديا سميت فترتها (بالعصر الذهبي للرأسمالية). وكان جون ماينارد كينز (1883 – 1946 ) رائد هذه المدرسة التي تدرس افكارها في معظم الجامعات العالمية وقد برز كاقتصادي له مساهمة كبيرة في ايجاد الحلول للنظام الرأسمالي الذي كان يعاني من ازمات كبيرة بعد الحرب العالمية الثانية وفي كتابه (النظرية العامة للعمالة وسعر الفائدة والنقود) ميّز بين المنتجين في الاقتصاد وهم الرأسماليون المنتجون والعاملون بالأجر وغير المنتجين وهم اصحاب الريوع المالية التي تمثل عائدات البورصة والفوائد المصرفية .
لقد اعتمد الاقتصاد الكينزي في تحليلاته واستنتاجاته على تصحيح المسار الخاطئ القاتل للرأسمالية في فترة ما بين الحربين العالميتين الذي كان متميزا بطبعته المالية المنفلتة، ومن هنا جاء الحل اعتمادا على السياسة الاقتصادية الكينزية. وحاول الكاتب التفريق في شكل تطبيق المفاهيم الكينزية بين الدول الاوربية التي كانت تحكمها احزاب يسارية من الديمقراطيين الاجتماعيين واشتراكي الاممية الثانية وجلبت منافع كثيرة للشركات الكبرى منها علاقات متوازنة مع الطبقة العاملة التي حققت بنضالها اجور جيدة ومستقرة ولكنها على المدى الطويل ليس اكثر من ارتفاع انتاجية العامل كل هذه الامور اعطت الرأسماليين ارباحا جيدة ومستقرة ومستمرة على الرغم من الضرائب العالية بينما اتجهت امريكا بعد وفاة روزفلت نحو اليمين ومحاربة الافكار اليسارية اما في اليابان فقد كان تدخل الدولة اكثر عمقا مما يجري في امريكا.
الا ان عمر الرأسمالية المنضبطة لم يدم طويلا فقد بدأت ارهاصات نشوء الليبرالية الجديدة في سبعينات القرن الماضي ونضجت بشكل حاسم بعد استلام رونالد ريغان الرئاسة في عام 1981 الذي حضي بدعم كبير من الشركات والمؤسسات المالية الكبرى وفي ظروف سياسية معقدة وضعت ادارة ريغان مناهجها الاقتصادية لتطبيق رأسمالية الليبرالية الجديدة بصورة سريعة ومنذ ذلك الوقت سعت امريكا الريغانية الى تعميم افكارها الاقتصادية الجدية التي حظيت بتماهي السياسة الاقتصادية البريطانية خاصة بدعم من رئيسة الحكومة مارجريت هيلدا داتتشر.

رأسمالية الليبرالية الجديدة

في الفصل الثالث من كتابه رأسمالية الليبرالية الجديدة أبحر الكاتب وساح في نشوء نظريات الليبرالية الجديدة وعوامل تطورها ونشوئها ومظاهرها الرئيسة وانعكاساتها على الاقتصاد العالمي والعولمة والسوق الحرة وتدخل الدولة في الاقتصاد فضلا عن العولمة وحرية التجارة والرسوم الجمركية كما ساح في عمق الرأسمالية غير المنضبطة وتطبيقاتها في رفع او تقليص القيود وشمولها الصناعات والخدمات الاساسية وانعكاساتها على القطاع المالي والضوابط الاجتماعية وتوسع في مناقشة الرأسمالية وكسر الاحتكارات المالية والخصخصة واخذت في هذا الكتاب الاقتصادي الثر مسالة القوانين والتشريعات المتعلقة بتقليل الضرائب عن الاثرياء والشركات مساحة كبيرة خاصة في نسب الحدود العليا للضرائب وقضايا الدين الحكومي وتقليص الضرائب والتهرب الضريبي وافرد لقطاع المال فسحة كبيرة من بحثه ولاسيما دور الجهاز المصرفي وموضوعات الرهن العقاري وختم كتابه بملحق عن قانون شركة النفط الوطنية العراقية وتداعياته وحملة الرفض للكثير من مواد هذا القانون واعتراضاتهم عليها لدى المحكمة الاتحادية ونجاحهم في الغاء الفقرات المجحفة .
وفي النهاية يمكن القول ان هذا المؤلَّف الكبير يعتبر منجزا فكريا لا غنى عنه بالنسبة للمتابعين للشأن الاقتصادي والمتصدين لرسم السياسة الاقتصادية في العراق ولا ننسى طلبة العلوم الاقتصادية سواء في القطاع الحكومي او الاهلي ما يعتبر مصدرا مهما في اغناء مناهجهم الدراسية وبحوثهم في مختلف المستويات الدراسية وتحضيراتهم للرسائل والاطروحات لنيل شهادة الماجستير والدكتوراه.

عرض مقالات: