من الحقائق المتداولة سياسيا واعلاميا وشعبيا، حقيقة البطالة المتنامية اعدادها، وضعف الاجراءات الناجعة لتلافيها وتلافي نتائجها الوخيمة، وعدم تكاملها، مع انتشار المفاهيم غير الواقعية، عن طريق الالحاح في التوظيف لدى المؤسسات والدوائر الحكومية، التي تعتبر حلا سريعا لمشكلة البطالة، الا انها لن تؤدي سوى الى تعقيدها وزيادة الاجراءات البيروقراطية واثقال كاهل الموازنة بالنفقات التشغيلية المتنامية اصلا. وعند الكلام عن البطالة والتخفيف منها او القضاء عليها، من الضروري بداية التأكيد على الظواهر الاساسية لسوق العمل والاسباب التاريخية للبطالة بعد عام 2003، بكل انواعها ومن ضمنها البطالة المقنعة.
ان قوات الاحتلال والقوى السياسية التي صعدت الى السلطة بعد سقوط الصنم، والتي من الناحية العملية لم يكن لديها اية برامج او خطط حقيقية، تؤدي الى التنمية المستدامة، لا سياسية ولا اقتصادية. وقد قامت باستغلال حالة الترقب والتفاؤل لدى عموم الشعب، فرفعت شعارات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، التي طرحتها في برامج حكومية وخطط شكلية، وضعتها للتعتيم على اهدافها الحقيقية في السيطرة على السلطة السياسية والاقتصادية، وفتحت الاسواق واغرقتها بالسلع الرخيصة المتدنية النوعية بشكل عام، بحجة تلبية حاجات الشعب الآنية. ولم تعمل لا على تطبيق الدستور، (رغم وجود بعض الثغرات فيه، وخصوصا فيما يتعلق بالبذخ في اعداد مجلس النواب)، اضافة الى الاعداد المبالغ بها لمجالس المحافظات والمغالات في رواتبهم، ولا القوانين التي سنتها بعد عام 2003، وبشكل مقصود، واهمها قانون الادارة المالية والدين العام، القانون الذي ينظم العمل والسلوك المالي والاقتصادي للحكومة. وبحجة التخفيف من حدة البطالة وخلق السوق بخطوات سريعة، توجهت هذه القوى الى التعيين المحاصصي الطائفي والاثني في اجهزة الدولة، وذلك لتثبيت مصالحها السياسية والاقتصادية، وبمساندة واسهام مباشر من قبل سلطة الاحتلال والجهات المتعاونة معها، الداخلية والخارجية، والتي بلورت نفسها على شكل كتل واحزاب مهيمنة وبجميع الوسائل والاساليب المتاحة. وقد ادى كل ذلك الى:
1-التضخم العشوائي في اجهزة الدولة جميعها، التشريعية والرقابية والتنفيذية، من حيث العدد والنوعية الضعيفة، اضافة الى التضخم في عدد المتقاعدين، وعدم الاستفادة، وبشكل متعمد، من الكوادر الكفوءة والفاعلة في جميع المجالات، ابتداء من الاجهزة التعليمية، والرقابية وحتى التنفيذية. اضافة الى التكاليف الباهظة لهذه الاجهزة، التي وصلت الى حدود خيالية تستوعب الجزء الاكبر من موارد الدولة الريعية، والتي اصبحت خطا احمر لا يمكن تخطيه، وعلى الحكومة تدبيرها بكل الوسائل، حتى لو ادى ذلك الى اثقال كاهل الحكومة بالقروض الداخلية والخارجية، ونقل جزء كبير من هذه التكاليف الى الاجيال القادمة. وانتشر بيع المناصب الحكومية حتى البسيطة منها، وبالتالي تفشي الفساد الاداري والمالي في اغلب اجهزة الدولة. وبسب تدهور الوضع الامني وعدم الاهتمام بالكوادر الكفؤة، غير المنضوية تحت لواء هذه الاحزاب، اصبحت الهجرة من العراق الملاذ الاخير لهذه الكوادر ولغيرهم الذين ادركوا انهم لن يستطيعوا تحقيق طموحاتهم في العيش المناسب. 2- التضخم في مجال النفقات التشغيلية، وزيادة الطلب على السلع الاستهلاكية بشكل غير مسبوق، وتفعيل السوق الفوضوي، بحجة تنشيط اقتصاد السوق الحر المزعوم، الذي لم يرد ذكره لا في الدستور ولا في القوانين المشرعة، والزيادة في النشاط التجاري الاستيرادي، وبتشجيع من الفئات الحاكمة المستفيدة ماليا من هذا التوجه، وبالتعاون مع بعض الجهات الخارجية ذات المصالح المشتركة اقتصاديا وسياسيا. 3- وقد ادى هذا التوجه الى اهمال الانتاج المحلي، صناعي، زراعي، خدمي، في القطاعات المختلفة، العام والمختلط والخاص، وفي جميع اشكالها القانونية، ومحاربته بشتى الطرق والوسائل، بما فيها التهديد والارهاب والتفجيرات والقتل والحرق والخطف، والسرقة والفساد الاداري والمالي، والتسيب المتعمد، وتفشي الفساد في المنافذ الحدودية تسانده منظمات مسلحة مليشياوية وعشائرية، من اجل سيطرة النشاط التجاري، والنشاطات المالية غير المشروعة، التي تحقق الارباح الطائلة، وبطريقة سريعة لصالح الفئات المستفيدة منه، الداخلية والخارجية. ان تراكم رأس المال الناجم عن هذه الاعمال يذهب غالبيته الى الخارج، اما تهريبا او هربا، لتستفيد منه الدول الاخرى، خلافا للمنطق التاريخي للتطور الاقتصادي في اغلب دول العالم.
4- فقدان شبه كامل لتقاليد العمل المهني، وتدني انتاجية العمل الى درجة كبيرة، في جميع المجالات الانتاجية والخدمية، وبالأخص في القطاع العام، وبشكل مقصود ومنظم، بغرض اشاعة الفوضى والتسيب والاهمال. مع تشجيع كامل من الفئات السياسية الحاكمة عن طريق تشجيع التسيب ومنح العطل في ابسط المناسبات حتى وصلت الى أكثر من 165 يوما في السنة
5-تفشي الفساد الاداري والمالي على جميع مستويات الاجهزة التشريعية والتنفيذية والرقابية. من اعلى مستوى الذي يشمل العقود الكبيرة، وتوزيع المقاولات، الى أدنى مستوى بما في ذلك رشى العاملين في اجهزة الدولة.
6-تدهور نظام التعليم بكل مستوياته، الابتدائي والثانوي والجامعي وحتى المهني، وفقدان صلته بسوق العمل، اضافة الى تفشي الامية والفقر والمستوى الثقافي المتدني.
7-الهجرة الكبيرة من الريف الى المدينة، مما ادى الى مشاكل كبيرة مختلفة، ابتداء من تدني الانتاج الزراعي، وتدني مستوى الخدمات في المدن، والى المناطق العشوائية المنتشرة في جميع المدن العراقية، وخصوصا في بغداد، وانتشار الاعمال غير المنظمة وغير الشرعية.
ان هذه الحقائق والظواهر التي تسود سوق العمل لا يمكن التغلب عليها بأعمال غير مخططة، وبإجراءات منفردة غير متكاملة، كما يجري في الوقت الحالي، وانما تحتاج الى حزمة متكاملة من البرامج والخطط والاجراءات الشاملة، وفي جميع المجالات. ان مشكلة البطالة لا تعني العاطلين عن العمل جزئيا او كليا فقط، وانما لا بد ان تشمل القضاء تدريجيا على البطالة المقنعة ايضا، وذلك من اجل تخفيف العبء على الموازنة الحكومية والحد من الاجراءات البيروقراطية. ومن المعلوم ان وجود البرامج والخطط الشاملة والمتكاملة وتحديد الاجراءات، لا يمكن ان يتحقق الا بتوفر الارادة السياسية من جميع مكونات السلطة التنفيذية والتشريعية والرقابية، وجهاز تنفيذي يمكن الاعتماد عليه وقادر على تحقيق ذلك. ولا يمكن الوصول الى القدرة على التنفيذ الا بإجراء الرقابة والمحاسبة الصارمة على تطبيق القوانين والتعليمات المرتبطة بالخطط التفصيلية، وبنتائج محددة ضمن فترات زمنية مرسومة، مع تحديد واضح للجهة المسؤولة عن التنفيذ. ان البرنامج الحكومي الحالي هو خطوة على بداية الطريق في هذا الاتجاه، نأمل ان يتم استكمالها بخطوات شاملة جدية اخرى، ومن هذه الخطوات:
- تشكيل وتفعيل مجلس الخدمة وتطعيمه بشخصيات كفؤة بعيدة عن مفهوم المحاصصة الطائفية والاثنية والحزبية. ان من المهمات الاساسية لهذا المجلس هو وضع الهيكل التنظيمي لمؤسسات الحكومة، والوصف الوظيفي، لوضع الشخص المناسب في المكان المناسب، مع تحديد سلم الرواتب والمخصصات بما ينسجم وصعوبة المرحلة التي يمر بها العراق والمشاكل التي يعانيها.
- لقد وصلت النفقات التشغيلية في الموازنة العراقية مدياتها القصوى، اذ بلغ اجمالي هذه التخصيصات من عام 2005 وحتى نهاية عام 2019 ما يعادل 1026,49 ترليون دينار. من اجمالي مخصصات الميزانية البالغة حوالي 1456,49 ترليون دينار، اي ما يعادل 70,5 في المائة من اجمالي الموازنات للمدة. وهذا ما يؤدي الى الحد من الامكانيات المالية لتقديم الخدمات الضرورية للافراد والصناعة والزراعة. ومع تفشي الفساد الاداري والمالي في المشاريع الاستثمارية، فان تغطية الاحتياجات الاستهلاكية للافراد يتم عن طريق الاستيراد، وهذا ما تريده معظم الجهات المتنفذة في السلطة. ولذلك يستوجب اتباع سياسة التقشف في جميع النفقات التشغيلية للجهاز الحكومي من اجل تخفيضها، وتحقيق العدالة في توزيع الموارد الحكومية على جميع فئات الشعب، وبالاخص الفئات المعدومة والفقيرة. والتوجه نحو تقديم جميع الخدمات الضرورية لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة.
واذا ما سلمنا بان التوسع في الاجهزة الحكومية لا يمكن ان يكون حلا لمشكلة البطالة، وان سلبياتها وخيمة على التنمية، فان الحل لمشكلة البطالة بجميع اشكالها، يكون عن طريق:
- التوسع في انشاء المشاريع الخدمية العامة ومنها التعليمية، عن طريق انشاء المدارس، في جميع انحاء العراق، في المدن والمناطق الريفية، ورفع المستوى التعليمي في كل المراحل الدراسية، والقضاء على الامية، وربط الدراسة بسوق العمل، اضافة الى شق الشوارع الجديدة الداخلية والدولية واصلاح الطرق القديمة، وتوسيع حركة بناء المساكن لحل ازمة السكن.
- العمل على التوسع في مشاريع الري واستصلاح الاراضي وتحقيق مشاريع الحزام الاخضر، ومحاربة التصحر، وتحسين ظروف المعيشة في الريف من اجل توطين الفلاحين وتطوير المناطق الريفية، والعمل على الهجرة المعاكسة من اجل تحقيق التنمية الزراعية وتأمين سلة الغذاء، مع العمل على تشجيع المشاريع الصناعية المرتبطة بالزراعة.
- العمل على استغلال الثروات الطبيعية النفط والغاز لتطوير الصناعات المصاحبة، مثل صناعة البتركيمياويات والاسمدة والمصافي من اجل استخدام منتجاتها لتطوير الصناعات المرتبطة بها وتصدير الفائض منها لتعزيز الموارد المالية للموازنة، وخصوصا وان الاسواق العالمية لهذه المنتجات في تطور مستمر والطلب عليها لازال متناميا.
- خلق الظروف المناسبة لتطوير الصناعات العراقية القائمة والجديدة على جميع المستويات الصغيرة والمتوسطة والكبيرة، وكل انواع الملكية العامة والخاصة والمختلطة. ان خلق مثل هذه الظروف يحتاج الى تدخل الدولة في كل المجالات التشريعية والمالية والخدمية والعمل الجدي على تطبيقها، ومن ذلك:
- حل مشكلة الكهرباء بشكل جذري، فمن دون الكهرباء لا يمكن تحقيق اي تطور في اي مجال من المجالات المذكورة وغيرها. ان الارادة السياسية الحقيقية الراغبة في عمل التنمية بشكل جدي عليها ان تعمل على حل هذه المشكلة بشكل جذري وبأسرع وقت ممكن. ان العرقلة المتعمدة التي رافقت حل مشكلة الكهرباء في العراق حتى اللحظة الراهنة، رغم المبالغ الطائلة التي انفقت من بداية سقوط الصنم وحتى الان، هي عملية مدروسة بشكل دقيق للإبقاء على الحالة الراهنة من الاعتماد على الخارج في تأمين الحاجات الضرورية للاستهلاك المحلي. ان حل مشكلة انتاج وتوزيع الكهرباء لابد ان يرافقها رسم سياسة سعرية مناسبة للمرافق الانتاجية والخدمية من اجل تمكينها من منافسة السلع المستوردة.
- رسم سياسة ضريبية تساعد على العدالة في اعادة توزيع الدخل، ومنح التسهيلات الضريبية المناسبة للقطاعات الانتاجية القائمة والجديدة، بأشكال الضريبة المختلفة، المباشرة وغير المباشرة، من اجل تشجيع الانتاج وتعويض الاستيرادات، وفي نفس الوقت المساعدة على التقليل من نسبة الفقر وخلق سوق عمل حقيقي من اجل التخفيف من البطالة وبالتالي القضاء عليها
- تنفيذ جميع القوانين والقرارات النافذة، وفي جميع المجالات وعلى جميع المستويات، وخصوصا المتعلقة بضبط المنافذ الحدودية وحماية الانتاج المحلي.
- توفير الموارد المالية المناسبة من قبل الحكومة ومن قبل النظام المالي التابع للحكومة وللقطاع الخاص، وذلك عن طريق دمج المصارف المتخصصة، الصناعي والزراعي والعقاري، وصندوق الاسكان في مصرف تنموي واحد برأسمال خمسة مليار دولار، تقوم الحكومة بإصدار سندات تغطي رأسمال المصرف، يتم تسييلها عند الحاجة، ويتولى بشكل اساسي تمويل المشاريع الاستراتيجية، اضافة الى المشاريع الصغيرة والمتوسطة والكبيرة، ويتم ضم جميع الممتلكات العقارية لهذه المصارف الى المصرف التنموي. ان الامكانيات المالية التي يتمتع بها هذا المصرف والمشاريع التي يطرحها للسوق والمدروسة دراسة دقيقة، تستطيع ان تجذب رؤوس الاموال المحلية والاجنبية الخاصة، اضافة الى صناديق الاستثمار العالمية وخصوصا صناديق التنمية التابعة لدول تبحث عن مثل هذه الفرص وخصوصا الصين والمانيا وصندوق بريكس.
ان كل هذه المقترحات والاجراءات وغيرها، المتعلقة بالتخفيف من حدة البطالة والقضاء عليها، لا يمكن تطبيقها ما لم يتم وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، والاستفادة من الطاقات العراقية المتوفرة داخل وخارج العراق، وما لم تتوفر الارادة السياسية المتكاملة، وما لم يتم الالتزام بتنفيذ القوانين النافذة وتحقيق الرقابة والمحاسبة الصارمة، بعد تحديد المسؤوليات بشكل واضح وصريح.