يندرج جانب التربية والتعليم في معظم دول العالم الغربي المتطور في اولويات المهام التي تسحق الاهتمام والوقوف عندها وقد يتجاوز هذا الاهتمام الحد الاعتيادي لما له من اهمية كبيرة في رسم سياسة الدولة من الناحية التعليمية والثقافية والتطور العلمي والمعرفي ومواكبة التطور العلمي والتعليمي في العالم والذي يصب في وضع الخطط اللازمة لمشاريع المستقبل التعليمي والثقافي لهذا البلد او ذاك.
ومن هنا نرى ان البلدان التي تولي الجانب التعليمي اهمية كبيرة تكون سباقة في التطور وخلق جيل متعلم واع وبناء ثقافة واعية للفرد، وهذا لا يعني ابدا عدم الاخذ في الاعتبار الجوانب الاخرى في بناء الوطن. فاليابان والمانيا وبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة وغيرها تعد اليوم من أفضل البلدان في العالم في مجال التربية والتعليم لما وصلت اليه من اهتمام بالتلميذ منذ مراحله الاولى حتى وصوله المراحل العليا من التعليم. وان اهمال الجانب التربوي في أي بلد ينعكس بشكل مباشر سلبا على وضع المجتمع بشكل عام والفرد بشكل خاص.
ومن هنا لا اريد ان اتناول الجانب التربوي بمجمل جوانبه وشعابه والنظر اليه من زوايا مختلفة، بل النقاش في مسألة مثيرة للجدل في التعليم، وهو رأي شخصي، الا وهو التدريس الخصوصي الذي شاع وانتشر بشكل غير محدود في الآونة الاخيرة والذي شمل المراحل الدراسية كافة وبخاصة المراحل المنتهية منها، والذي يعتقد اغلب الاداريين واصحاب القرار في وزارة التربية والمديريات التابعة لها انه هو السبب الاساسي ان لم يعتقدوا انه من اهم اسباب تدني العملية التربوية في بلدنا.
لا تطفو ظاهرة ما على سطح الازمات الا ولها اسباب لظهورها لكنها قد لا تكون هي السبب الرئيس، فالتدريس الخصوصي يعد حسب وجهات نظر الاداريين (وليس التدريسيين) من اهم الاسباب التي تؤثر على العملية التربوية دون النظر في الاسباب الرئيسة. وهنا بصفتي احد التدريسيين الذين قضوا جل حياتهم في العملية التربوية، ارجح كفة التدريس الخصوصي (بعيدا عن الكسب المادي) واعتبره مهما للطالب في المدارس الحكومية هذه الايام لأسباب كثيرة ومتعددة، ان ظاهرة التدريس الخصوصي لها ايجابياتها التي تفوق بشكل كبير سلبياتها ان وجدت، اولا يجب ان نعرف لماذا يلجأ الطالب الى التدريس الخصوصي وعلى يد اساتذة من ذوي الخبرة والمحالين إلى التقاعد على الاغلب، هنا اريد ان ادخل في نقاش مع زملائي المدرسين فهم يدركون قبل غيرهم مدى الفائدة التي يحصل عليها الطلبة من التدريس الخصوصي. فالأسباب كثيرة ومن اهمها فقدان الضوابط من قبل مديريات التربية في الاشراف المباشر على الزملاء المدرسين والتأكد من اكمال تدريس المناهج بشكل جاد واتمامها وفق الخطط اليومية والسنوية التي يضعها المدرس كخطة عمل على مدار السنة الدراسية، وكذلك قلة او انعدام الدورات التربوية المتخصصة والتي تساهم بشكل مباشر في تطوير قدرة المدرسين وحسب المراحل الدراسية وان وجدت فيتم اشراك (المدرسين المقربين او من غير المشمولين بتلك الدورات والتي غالبا ما تقام خارج البلد)، وعدم محاسبة الطلبة والزامهم بتطبيق الضوابط المدرسية والمنصوص عليها في النظام الداخلي للمدارس الثانوية والابتدائية على حد سواء مما ادى الى فقدان سيطرة المدرس حصراً وكذلك الادارة على الطلاب وتجنب محاسبتهم حتى على ابسط الواجبات كالتحضير اليومي او الواجب البيتي، وكذلك التساهل من قبل اللجان المختصة في مديريات التربية والتعليمات التي تصدرها تلك المديريات بخصوص درجات المساعدة (عشر درجات ) كهدية ارفع درجات الرسوب للطالب الى مستوى النجاح، ورفع الدرجة اليائسة الى درجة 30 او اعلى بعد ان كانت صفرا او اكثر بقليل، وكذلك سياسة التربية في تعدد الادوار الامتحانية مما ادى الى ان بعض الطلبة يعتمد نجاحه في الدور الاول وان لم يحصل ففي الدور الثاني وان لم يحصل فهنالك منقذ هو الدور الثالث في الامتحانات الوزارية العامة، وكذلك الدخول العام الذي جعل للطالب المهمل في الدراسة املا في النجاح في تلك الادوار وبعدها يمكن ان يطالب التربية بدور رابع وخامس ومن المحتمل ان تنفذ التربية رغبته (خوفا عليه من الضياع)، وكذلك عجز ادارات المدارس وعدم قدرتها على محاسبة الطلبة المشاكسين والمتغيبين والمتسيبين وخوفا من الدخول معهم في مشاكل هم في غنى عنها وتحويلها الى قضايا عشائرية وهذا ما ظهر في الاعتداءات المستمرة على الكوادر التعليمية وفي داخل الحرم المدرسي، وهذا بسبب عدم توفير الحماية للمعلمين والمدرسين ضد حالات كهذه. اضافة الى قلة الدروس النموذجية التي يجب ان تقام مرتين في السنة على اقل تقدير والتي تغني خبرات المدرس في طرق تدريسه والاستفادة منها بشكل او بآخر والتي تساهم في تطويره وإعداده تربويا ومنهجياً. ان ما ذكرته لم يكن الا غيض من فيض (ولخصوصية الموضوع) فهذه الاسباب وغيرها الكثير دعت الطلبة واولياء امورهم الى اللجوء الى التدريس الخصوصي لإنقاذ ابنائهم من الضياع وسط هذا الشلل التام الذي يعم العملية التربوية، تاركين المدارس الحكومية خلف ظهورهم وتسجيل ابنائهم في دورات التقوية او التدريس الخصوصي مهما اخل ذلك بالجانب الاقتصادي للعائلة، وهنا يلعب التدريس الخصوصي دوره الايجابي في اغناء الطالب في المادة المنهجية وايصال المادة بشكل مفصل الى الطالب بعيدا عن بعض الضوابط الفنية المدرسية كالالتزام بالوقت والمواعيد وكثرة عدد الطلبة في الصف الواحد والذي يصل في احسن احواله الى 50 – 60 طالباً، في الوقت الذي يكون عدد الطلبة في المجموعة الواحدة في التدريس الخصوصي لا يزيد عن 8 او اكثر أو أقل وبذلك تكون فرصة الطالب في التعلم اكثر والنقاش واستيضاح الكثير من المسائل التي تتعلق بالمادة (وهو مبدأ تربوي معمول به في المدارس النموذجية)، وهذا لا يعني ان التدريس الخصوصي ليس فيه سلبيات وعمليات ابتزاز من قبل بعض المدرسين وخاصة ضعاف النفوس منهم، مثل فرض اجور عالية لا يستطيع اي طالب تحملها وخاصة اذا كانت لديه عدة مواد مثل الفيزياء والكيمياء واللغة الانكليزية والاحياء والرياضيات، وكذلك الاحراج الذي يفرضه بعض الطلبة من ذوي الدخل المحدود او من غير الميسورين على عوائلهم لتوفير تلك المبالغ، وهنا فان الطالب غير ملزم بأخذ الدروس الخصوصية وهي ليست الزامية، اذ يمكنه مواصلة دراسته في المدارس الحكومية وعدم ارغام اهله، وذلك عن طريق الدراسة والتحضير اليومي المستمر ومتابعة المدرس والمثابرة والدراسة الجادة والتي تغنيه عن الدروس الخصوصية، ولكن تبقى المحصلة النهائية هي ان الطالب يضمن نجاحه وبمعدلات عالية وهذا ما لمسناه في كثير من الطلبة وخاصة الذين يشكون من ضعف عام في المواد التي يدرسها، وهنا اود ان اشير الى ان نسب النجاح تكون لدى المدرس الخصوصي الكفء في جميع الاحوال مائة في المائة او اقل علاوة على ما ذكرت فان نخبة المدرسين المعنيين بالتدريس الخصوصي هم من خيرة المدرسين ومن اصحاب الخبرة والذين لهم باع طويل في المجال التعليم والتدريس والحاصل على نسب نجاح عالية عندما كان يعمل في المدارس الحكومية وله من الخدمة في كثير من الاحيان ما يقارب الاربعين عاما قضاها مع المنهج الذي هو من اختصاصه وهذا يعني انه خبر مادته العلمية حتى يكاد ان يظهرها ويدرسها للطالب عن ظهر قلب دون اللجوء الى كتاب المنهج المقرر. ولو قمنا بمقارنة بسيطة بين اجور المدرس الخصوصي والاجور التي يدفعها الطالب الى المدارس الاهلية، والتي هي مجازة رسميا من قبل وزارة التربية، لوجدنا ان تلك الاجور تكاد تكون مقاربة لها ان لم تزد عليها في بعض الاحيان. والكثير من المدرسين الخصوصيين يدخلون احياناً مع الطالب في نقاش حول سبب تركه مدرسته الحكومية ومدرسيه واللجوء الى الخصوصي فيعزي اغلب الطلبة ذلك الى ان الكثير من المدرسين في الفترة الاخيرة والذين يقومون بتدريس المراحل المنتهية بشكل خاص لا يملكون الخبرة الكافية فأما ان يكونوا غير كفوئين وغير متمكنين من مادتهم او عدم قدرة البعض منهم على ضبط الصف او لكونه حديث التعيين علاوة على التسيب والفوضى التي تسود الفصل الدراسي او تسود المدرسة عموما وعدم قدرة الادارة على معالجتها والسيطرة عليها، واقول هنا أليس للتدريس الخصوصي فائدة كبيرة غطت على الكثير من السلبيات والفوضى والفشل الذي يعم مدارسنا اليوم؟ وكذلك المساهمة في رفع نسب النجاح في المدارس الحكومية وبشكل غير مباشر لان اغلب الطلبة الذي يشاركون في الدروس الخصوصية هم من المراحل المنتهية في المدارس الحكومية، كالسادس العلمي بفرعيه التطبيقي والاحيائي ويليه السادس الادبي ومن ثم الثالث متوسط، فلماذا كل هذا التجني على التدريس الخصوصي وغض النظر عن كل ما يسود المدارس من مختلف المشاكل والاهمال، علما ان التدريس الخصوصي لم يكن وليد اليوم بل انه موجود منذ الستينات من القرن الماضي حيث كان يقتصر على تدريس ابناء المسؤولين والميسورين، ومن ثم تطور بعد فشل المدارس والعملية التربوية برمتها ولأسباب كثيرة ومتعددة الامر الذي يحتاج الى اعادة بناء وهيكلة المؤسسات التربوية في عموم القطر من وزارة التربية الى اصغر مؤسسة تربوية ومحاربة الفساد المستشري داخلها والذي يحتاج الى عمل نزيه وعلى ايدي تؤمن حقاً بتطوير العملية التربوية، علما ان التدريس الخصوصي لا يقتصر على المدرسين المتقاعدين حصرياً بل تعداه ليشمل جميع المعلمين والمدرسين في المدارس الحكومية والذين هم في الخدمة اليوم ومن المراحل الابتدائية الى المراحل الثانوية رغم صرامة التعميمات والتوجيهات التي تصدرها الوزارة والمديريات العامة للتربية بخصوص منع المدرسين من التدريس الخصوصي وخاصة اذا كان الطالب من المدرسة نفسها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مدرس متقاعد