إعتاد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب،على طرح بعض الأفكار الديماغوجية المتعلقة بسياسة الولايات المتحدة الأمريكية الخارجية، وغالبا ما تكون موجهة إلى دول عظمى أو دول كبيرة،  فرضت حضورها عالميا بفضل قوتها الإقتصادية والعسكرية، وبعضها إعتبرت تاريخيا حليفة للولايات المتحدة منذ عقود طويلة.

من يتابع تصريحات الرئيس الأمريكي، يظن للوهلة الأولى أنه يتبنى إستراتيجية الإنسحاب التدريجي من المركز الإمبراطوري الذي تحتله بلاده، وآخرها مطالبته دول العالم بحماية ناقلاتها في مضيق هرمز.

شكك الرئيس الأمريكي بجدوى حماية ناقلات النفط لدول أخرى، ولمح لإحتمال فرض رسوم لقاء هذه الحماية، ووجه كلامه إلى الصين واليابان قائلا :" أن الصين تحصل على 91 بالمئة من نفطها عبر المضيق، واليابان على 62 بالمئة، فلماذا نحمي ممرات الشحن في البلدان الأخرى ، ومنذ سنوات عديدة بدون مقابل؟ "، ثم أضاف: " لسنا بحاجة إلى أن نكون هناك ، فقد أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية للتو وإلى حد كبير، أكبر منتج للنفط بالعالم" ، أي أن نفط الخليج لم يعد يحظى بتلك الأهمية كما في السابق.

بالرغم من أن الصين تحصل على واردت نفطية  إضافية من روسيا، وما زالت أمريكا تستورد حوالي 30 مليون برميل شهريا من النفط العالمي، إلا أن الرئيس الأمريكي، يصر في كل فرصة ، على مطالبة الدول بتحمل نفقات الوجود والهيمنة الأمريكية في العالم، وفي منطقة الشرق الأوسط تحديدا، ويبدو وكأنه يدافع عن المصالح العُليا للولايات المتحدة الأمريكية.

الثابت ومنذ مقولة الرئيس الأمريكي الأسبق (تيودور روزفلت) ، في نهاية الأربعينيات من القرن العشرين: " أن قدر الولايات المتحدة الأمريكية هو أمركة العالم"، أن المركز الإمبراطوري الأمريكي، يقوم أساسا على التوسع والهيمنة الإقتصادية، تحت سطوة القدرات العسكرية، وأن أمريكا لم تكن لتحقق ما وصلت إليه ، دون إستراتيجيتها الإمبريالية وتحديدا منذ الحرب العالمية الأولى، لا سيما أنها وتحت شعارات " حرية التجارة، وحرية السوق، وتوازن المصالح والإمتيازات ، والعولمة " خاضت عددا كبيرا من الحروب والصراعات الدولية، وكان من أولها التنافس المحموم على إمتيازات النفط في الخليج العربي مع الإمبراطورية البريطانية.

وكما قال فريدرك جاكسون تيرنر، مستشار الرئيسين روزفلت وولسون: " إن جوهر إستراتيجية الولايات المتحدة كدولة، تكمن في العملية الجيوسياسية للتوسع والتحرك الدائم نحو الهيمنة على العالم، وأن تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية ، هو تاريخ الحدود المتحركة على الدوام دون تردد".

منذ سنوات طويلة، تسعى الولايات المتحدة الأمريكية، لتكريس هيمنتها أحادية القطب على العالم، وتحديدا على الممرات البحرية وطرق التجارة الدولية ، وتسعى لإقامة التحالفات الدولية للسيطرة على البحار والمحيطات، ودمج أكبر عدد من  القوات البحرية للدول في منظومة واحدة، تحت قيادتها، وهو ما يجعل تصريحات الرئيس ترامب مجرد " دعاية سياسية " تدغدغ مشاعر الناخب الأمريكي، وتبتز بعض الدول في المنطقة، وتستخدم كورقة ضغط على دول أخرى، حتى الحليفة منها.

من الركائز الأساسية للفكر الإستراتيجي الأمريكي، حماية مصالح الولايات المتحدة الأمريكية حول العالم، ومن يتابع سياستها الموجهة بالتحديد نحو التنين الصيني، يُدرك حجم القلق الأمريكي المستقبلي.ويقع في صُلب هذه المصالح الحفاظ على وجودها الجيوإستراتيجي في الخليج، وإلتزامها الدائم بأمن الكيان الإسرائيلي، ولا يمكن  تصور أنها ستترك المجال للصين والهند وروسيا وتركيا أولإيران، لإيجاد مجال حيوي أوسع لإقتصادياتها ونفوذها.

في 24 .4. 1950 ، تكشفت ملامح المشروع الأمريكي للهيمنة على العالم ، بعد رفع السرية عن وثيقة صادرة عن مجلس الأمن القومي الأمريكي ، تحمل الرمز (NSL-68) ، ومضمونها الأساسي هو ضرورة  قيام الولايات المتحدة الأمريكية، بتولي القيادة في بناء نظام سياسي إقتصادي للعالم الحر. وما زالت هذه الضرورة قائمة عند صانع القرار، وما زالت هذه الإستراتيجية متواصلة، تدعمها تجمعات المصالح والشركات العملاقة، بغض النظر عن تغريدات الرئيس ترامب بين فترة وأخرى، ويجد المراقب صدى هذه الإستراتيجية "الضرورة"،في ممارسات الكيان الإسرائيلي في المنطقة.

عندما كان لبريطانيا العُظمى مُطلق الحرية في التحكم بالساحل الخليجي، وبعد القوة الحقيقية التي أمدها بها نفط الخليج منذ الحرب العالمية الأولى، سعت لفرض هيمنتها وإحتكارها لللموقع الإستراتيجي والنفط الخليجي والإيراني، وأصبح  للنفط أهمية إستراتيجية عسكرية، كذلك الأمر بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية التي زاحمت بريطانيا لتستفيد بدورها من النفط وعوائده المالية الهائلة.

 وكما فرضت بريطانيا في تلك المرحلة إتفاقيات حماية ووصاية عسكرية وسياسية على بعض الإمارات ، وفرضت عليها مصالحها، تبنت الولايات المتحدة ولا زالت نفس السياسات ونفس النهج ، وكانت المستفيد الأكبر.

يُعتبر النفط العربي من الصناعات الضخمة بالنسبة للأمريكان، وهي لعبة المال الهائلة تقوم عليها مصالح كبيرة وشركات عملاقة، تؤثر في الإقتصاد الأمريكي، وبالرغم من  توقعات بعض الدراسات ، مثل دراسة شركة " بريتش بتروليوم "، بأن الولايات المتحدة الأمريكية يمكن لها أن تتحرر من الإعتماد على نفط الشرق الأوسط بحلول عام 2030، إلا أن التواجد الأمريكي في المنطقة الإستراتيجية البالغة الأهمية ، لم يعد مرتبطا فقط بالنفط على أهميته.

من الصحيح أن الولايات المتحدة الأمريكية تمتلك كما هائلا من الإحتياط النفطي يكفيها لسنين طويلة، وأن نفطها الصخري يُعد بديلا محتملا للنفط الخام، ولكنه لن يؤدي لتراجع أو إنسحاب أمريكي من المنطقة في الفترة القادمة، فالصين أيضا تمتلك  ضعفي هذا الإحتياط الصخري، حيث يصل إلى 121 تريليون قدم مكعب، ولكن تكلفة إستخراجه ولأسباب كثيرة جغرافية وجيولوجية وغيرها عالية جدا.

لا تحمي الولايات المتحدة الأمريكية ناقلات النفط مجانا، ولكنها تخافظ على مصالحها، وقيادتها للنظام السياسي والإقتصادي العالمي، والخليج هو المفتاح الذي لا غنى عنه للدفاع عن هذا القيادة.

في وثيقة أخرى صادرة عن الحكومة الأمريكية في آب 1991، بعنوان : إستراتيجية الأمن القومي للعصر الجديد " رقمها (NSS-91) ، تم تحديد المفاهيم والقيم التي تحكم السياسة الأمريكية في المنطقة، وتتلخص فيما يلي:

أولا : السيطرة على النفط كمصدر للطاقة والمال.

ثانيا: السيطرة الثقافية العولمية.

ثالثا: توجيه الضربات الإستباقية للقوى المتعاظمة وتحجيمها.

رابعا: ضمان أمن إسرائيل والإلتزام بحمايتها.

خامسا: منع بروز أية قوة عظمى في العالم، تنافس الولايات المتحدة.

ما زالت هذه المفاهيم هي التي تحدد الخطوط العريضة للسياسة الدولية للولايات المتحدة الأمريكية، وعلى كل من  يحكم في البيت الأبيض أن يلتزم بها.

تقوم العلاقة بين أمريكا ودول الخليج، على معادلة  الأمن في مقابل المصالح، وأي إخلال في هذه المعادلة، سيقود الولايات المتحدة إما لحرب جديدة بعد إستنزاف المناورات والإلتفاف على التحديات ومحاولات الإبتزاز، أو لإعلان  الإنسحاب من مركزها الإمبراطوري، وبدأ نهاية العصر الأمريكي بشكل متسارع، والآخذ بالتراجع عالميا على جميع الأحوال.

لا تمتلك الولايات المتحدة، خيار الإنسحاب الطوعي من منطقة الشرق الأوسط، لأن التوازن الدولي سيختل بشكل كبير، وسيؤدي لإنهيار النظام العولمي الأمريكي القائم، وتشكل نظام دولي جديد.

 لقد ربطت الولايات المتحدة الأمريكية ، وريثة العرش الإمبراطوري البريطاني ، كيانات سياسية كثيرة ودول بمنظومتها الإقتصادية والعسكرية والأمنية والسياسية، وأي تراجع سيعيد رسم الخارطة السياسية لكل دول منطقة الشرق الأوسط بالتأكيد.