ثورة تموز أعظم حدث في التأريخ العراقي الحديث ، وما أحدثته من تغيير شامل في حياة شعبنا والمنطقة .

ولكن مع شديد الأسف ، قد قتلها ثوارها وصناعها !!..
وأكلوا لحم بعضهم وتناثرت أشلائهم !..

فبكتهم العراقيات والعراقيون ، دما ودموع وألم ولوعة ، على امتداد إحدى وستون سنة !..

هذه حقيقة مرة وصادمة ، وكان مصاب وحدثا جلل ، واحتار الساسة والكتاب والمثقفون والنقاد ، في تقيمها !..

اختلف المختلفون والمحللون والنقاد عليها . وحار في وصفها المؤيدون والمناصرون ، كونها ثورة الشعب .. كل الشعب ، ومن ساقته عاطفته ونبله وحبه للتغيير والتجديد ، للشهادة والإشادة بما أنجزته وما قدمته خلال عمرها القصير والقصير جدا .

وفي كلتا الحالتين ، تبقى ثورة تموز منارة عظيمة وزلزالا غير مجرى الحياة في بلاد الرافدين .

يستقي من نورها المناضلون والثوريون والمتبصرون المتابعون لحركة المجتمع وشروط تطوره وانتقاله من مرحلة دنيا الى مرحلة أرقى ، ولقيام نظام جديد أكثر تطورا وتقدما وعدلا وانصاف ومساواة ، ليقوم على أنقاض القديم المتهالك والمعادي لتطلعات وأماني شعبنا ، والذي أصبح لا يلائم ولا ينسجم مع حركة الحياة .

ويسعى المتنورون والطليعة الواعية في المجتمع ، الساعون الى الغد السعيد ، هؤلاء ذهبوا لدراسة هذه التجربة وما أفرزته ، شاخصة عقولهم وأبصارهم الى تلك الظروف وما استجد فيها من أحداث وما خلقته من جديد ، فيعيدوا الدراسة والتمحيص والتقييم لهذه التجربة ، الدراسة المتأنية والنقدية المتبصرة والواعية ، وبعيدا عن العواطف والانحياز والتعصب والأحكام المسبقة ، سلبا كان ذلك أم إيجابا .

والنقاد والمفكرين والمثقفين والمهتمين بحركة المجتمع البشري ، ينظرون الى الحدث الاجتماعي بشيء من التجرد ، ويحرصوا على القراءة المتأنية والموضوعية ويستخلصوا من تلك الرؤى والتجارب ما يساعدهم على رسم حاضر البشرية ومستقبلها ، ووفق قوانين التطور الاجتماعي وانتقاله من مرحلة لأخرى ، وينظرون الى خصوصيات كل مجتمع على حدة ، وأن لا يحاكموا الثورات وما يطرأ من تبدل في الكم والكيف ، وما تحدثه من تغيرات وما تفرزه من وقائع جديدة على الأرض .

التغيير أو الثورة تصنع رجالاتها وأدواتها من رحمها ، باعتبارها شريحة مختلفة في كثير من الأحيان ولها سمات تميزها وتؤهلها في تصدر الثورة وقيادتها ، هذه الرموز تكون مهيأة فكريا وسياسيا وتنظيميا لقيادة هذا الحدث الاجتماعي الفريد في شكله ومضمونه .

قادتها ورموزها الذين تم دفعهم في تصدر المشهد السياسي ، الذين خرجوا من رحم الثورة ومن رحم هذا المجتمع ويعبرون عن هموم الناس ، هؤلاء يشكلون رأس الحربة والمعول عليهم لإحداث التغيير المنشود .

ويحملون على عاتقهم مسؤولية قيادة التغيير وإدارته وتحقيق أهدافه ، والتي يجب أن تمثل إرادة الفئات الدنيا في المجتمع .
هؤلاء الذين نهضوا بمسؤولية قيادة عملية التغيير أو الثورة ، لما اكتسبوه من وعي وخبرة وتجارب ، وما استخلصوه من عبر أهلتهم ومكنتهم من صنع هذا الحدث التاريخي العظيم .

هذه الثورة وما حققته من إنجازات ومكاسب للناس ، يشهد لها العراق والعراقيون ومنها ما زال شاخصا حتى يومنا الحاضر .

لكنها تعرضت ومن بداية عمرها القصير ، الى نكسات وهزائم وتراجعات ، وما حيك ضدها من دسائس ومؤامرات وتدخلات فضة وغادرة ، وما عاشته من ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية عاصفة ، وما أحدثه من تغيير واستقطاب واصطفاف في المشهد العراقي ، في المجالات السياسية والاجتماعية والفكرية والطبقية ،وتركت بصمات واضحة ، نتيجة لذلك الاستقطاب والتقاطع في الرؤى والأهداف ، والطبيعة السياسية والطبقية والفكرية لقادة الثورة ، وما أحدثه ذلك الانقسام والتناحر ، والذي أثر بشكل كبير على مسيرة الثورة وتعثرها وتراجعها .

وكما بينا بأن البلاد تعرضت الى صراعات عنيفة ، بشكل تصاعدي محموم ، بتعدد وتجدد أشكال هذا الصراع بين القوى السياسية والاجتماعية ، حلفاء الأمس والخصوم والأعداء اليوم .
من وجهة نظري المتواضعة والشخصية ، ناتج عن تدني الوعي المجتمعي ، وغياب التأثير الإيجابي والمحسوس لمنظمات المجتمع المدني الديمقراطية الواعية لمهماتها ، والواعية لمسؤولياتها والمنظمة تنظيما سليما وواعيا ، المتسلحة بالمعرفة وبالثقافة والوعي الديمقراطية وثقافة ومفهوم المواطنة ، الذي سيساهم بشكل أو بأخر الى التخفيف والتقليل من اتساع الهوة وتأجيج الصراع وزيادة حجم الهوة بين الفرقاء المتحالفين .

هذا وغيره من الأسباب وغياب الإرادة السياسية الفاعلة ، لتتمكن من تبني هدف إرساء دعام الدولة الديمقراطية وسيادة القانون ودولة المؤسسات .

إن هذا قد انعكس سلبا على كل الطيف السياسي العراقي بشكل عام ، وعلى توازنهم وصواب نهجهم .

هذه القوى التي جاءت بعد الثورة ، لم يكن لديها رؤية كأحزاب سلطة وحكم ، فهي تخوض تجربة السلطة وإدارة الدولة وهذا عمل جديد على أغلب هذه الأحزاب ، فجميع القوى السياسية العاملة على الساحة العراقية كانت تعيش ثقافة المعارضة ، وليست ثقافة السلطة ، فانعكس بشكل واضح على سلوك ونشاط هذه القوى وعلى مجمل الحياة في البلد ، وكما نراه في عراق اليوم والتجربة الى حدما مشابهة بين الأمس واليوم .

ونتيجة لما بيناه وغيره ، لم تتمكن القوى السياسية بمجملها من بلورة رؤيا موحدة تنسجم مع ما استجد من ظروف ومتطلبات عملية بناء دولة المؤسسات ، ولتطوير وإنضاج الأدوات المشترك بين القوى السياسية ، ومسك العصى من الوسط ، للأسف هذا لم يحدث ، وفقدت الثورة وقادتها ومعها الطيف السياسي التوازن والثبات والتبصر والرؤية السليمة ، وذهبت بالسفينة بعكس اتجاهها وخلافا لأهدافها وتطلعات شعبها .

وما التأرجح والمناقلة والتباعد والذي أصبح السمة الغالبة على المشهد العام ، وكان ذلك واضحا وبينا ، بعد مرور أقل من سنة من عمر الثورة ، وراح بنائها يتأكل ، هذا البناء الغض الوليد من داخلها وتداع بنائها أو كاد ، فتراجعت شعبيتها وضعفت شكيمتها وعودها ، وبدء التراجع بينا وواضحا لكل المتتبعين للشأن السياسي العراقي ، وبالخصوص ونتحدث عن بناء الدولة ومؤسساتها الاجتماعية والسياسية والقانونية !..

أصبح الانقضاض عليها يسيرا ومتاح ، لكل من يجمع ولو نفرا قليلا لإسقاطها ، نتيجة غياب سلطة القانون والإرادة السياسية التي بيدها ناصية القرار ، والتهاون مع أعداء الثورة وهم كثر !..

وفعلا قد قيض لهؤلاء وتمكنوا من تنفيذ مؤامرتهم المكشوفة والمفضوحة ، وهذا هو الذي حدث فعلا في شباط الدم الأسود الحزين !..

أقولها وبثقة مطلقة بأن ثورة تموز قد سقطت قبل الثامن من شباط الأسود ، وبعيد الأول من أيار 1959 م ، وهذه حقيقة مرة ومريرة ومحزنة ، بل كارثية ومصيبة كبرى حلت في العراق وما أصابت شعب العراق من ألام وما كلفه من تضحيات جسام لن ينساها شعبنا على امتداد قرون .

ما زال شعبنا يدفع ضريبة انهيار هذه الثورة العظيمة وما نتج عنها من تراجعات وانكسارات وهزائم في مختلف مناحي الحياة في العراق .

المجد لثورة تموز ولقادتها الأماجد ولثوارها الشجعان الذين قدموا أرواحهم قربانا على مذبح الحرية والاباء والشرف .

المجد والخلود لشهدائها وللضحايا الكرام ولكل المدافعين عن العراق وشعبه وعن جمهوريته الفتية .

الخزي والعار سيبقى يلاحق القتلة المجرمين ، ومن اغتال ثورة تموز وقادتها وزعيمها الشهيد عبدالكريم قاسم ، وكل من ساهم في إجهاض هذا الحدث التاريخي العظيم .