قال شاعر الحكمة جميل صدقي الزهاوي :
قال : أترك المعقول ، لا تعمل به حتى يؤكد حكمه المنقولُ
قلت: أترك المنقول ، لا تعمل به حتى يؤكد حكمه المعقولُ
إغلاق العلوم العقلية
" في الفكر الديني يكون العقل نسبي ، وبما إنه نسبـي فيجـب أن يكـن تابـع للنـص الدينـي المطلـق ، ولا يخرج عن هذا الإطار " (1). يعنى هذا أن العلوم الطبيعية تكون محدودة ولا قيمة لها إذا لم تدخل بإطار النص الديني المطلق المنزل من السماء المغلف بهالة المقدس . والنـص المقـدس إلاهيـاً لا يمكـن تحكيـم العقل به لأن العقل نسبي إذا ما قارناه بالنص الديني المطلق ، وحسب الفكر الديني ، أن يخضـع النسبـي للمطلق، يعنى ذلك إلغاء العقل أمام النص الديني المقدس . ولهذا أصبح المسلم مقلِّـد تابع مطيـع لما يأتي به مشايخ الدين من فتاوى تكون أحياناً خارج تغطية العقل ، أو مضادة للعلم ، كرفضهم دوران الأرض أو إختراق الفضاء وغيرها من الإكتشافات العلمية التي لا تتفق مع الفكر الديني . ففضّلوا أن يبقى الفكر الديني وخطابه ولغته وطريقته متكلّساً مترهلاً منغلقاً ألف مرة عن أن تناله يد التجديد أو تطالـه بواعـث التحديث والعقلنة .
بينما نرى العالم المتحضر يسرع نحو التقدم العلمي والتكنولوجي ويخصص له أموال طائلة في سبيل أن نبقى بشراً ، وبينما الكل يرهق نفسه وعقله سعياً لمزيد من التقدم والرقي .. نجد العالم الإسلامي يفرض غبارة سوداء كي تحجب عنه الأبصار والبصيرة ، وتدخله في ظلام وعتمة تقوده الى مزيد من التخلف واللاعقل ، ويُطلى العقل المسلم بمثل هذه الغشاوة والجهالة التي تحرمه حتى من التفكير وحق الإنتقاء ، وحتى رفض ما هو مرفوض بطبعه ، ليتم تحصين العقل المسلم ضد العلم والإستنارة ، حيث غلـب طبـع المسلمين على قبول التطبع والتطبيع ليس من أجل التطور والرقي بل مـن أجـل صد كـل ريــاح التغييـر السياسي والإقتصـادي والإجتماعـي والثقافـي ، وتغليـب القدامة علـى الحداثـة ، وتغليـب التعليـم الدينـي المتحجر الظلامي على التعليم المتنور المتجدد دائماً . لقد غلب ( التأسلم البدوي ) ومنهج الرعوية على العقلانية .
وعلى أصوات دوي مدافع تكنولوجيا الإنترنت وشبكات التواصل الإجتماعـي إهتـز المسلمـون وإنتبهـوا أثناء يقظتهم المفاجئة بأنهم متخلفون عن العالـم الآخـر بمئـات السنيـن . وإذا مـا حـاول البعـض منهـم أن ينهض من جديد ليلحق بركب المجتمع البشري المتقدم والمتحضر ، نرى البعض الآخر المتزمت بالنص المقدس يستميت لرد الإعتبار بإعادة المخزون التقليدي الماضوي ليعرقل طموح الجيل الجديـد للحداثـة ، لأن الحداثة في نظرهم هي إختراق غربي للإسلام وإبعـاد المسلميـن عـن دينهـم وتقالـيده التـي يجـب أن يحافظوا عليها ويجاهدوا من أجلها لنيل رضى الله والفوز باليوم الآخـر { والآخـرة خير لـك من ألأولى } سورة الضحـى.
ولهذا بقي وضع المسلمين على نفس الحال منذ 1400 سنة وليومنا هذا دون أن يتقدموا خطـوة واحــدة، وإذا أتيحت لهم الفرصة أن يتقدموا ، تبدأ نيران الشتائم على الغـرب الكافـر ، ويلصقـون به شتـى أنـواع التهـم ، ويُرجعون الى تأثيراتها جميع المفاسد والقبائح والكبائر ، كما ينددون بالتأثيـرات (الهدامة) الآتيـة مـن ذاك الغرب الذي " أستبدل الروحانية الربانية بالمادة " (2) وهي العقل وإبداعاته .
إعادة إنتاج التخلف
المحنة الكبرى تتمثل فيما ينتشر في مجتمعاتنا العربية والإسلامية عامة من مناخ ديني لا عقلاني متخلف شبه أسطوري لا صله له بالواقع الذي يعيشه المجتمع البشري اليوم ، ولا بدعوته للتعقل والتدبر والتفكير ، ولا بمراجعة الذات . فأصبح القيمون على الدين الإسلامي مصدراً من مصادر نشر اللامعقول " بتعبئة دينية مجردة إطلاقية يغلب عليها الطابـع الإنفعالـي " (3) يشحنـون بهـا المجتمعـات الإسلامـي البسيطـه عاطفياً ، ويغيّبون عن أبنائها الحلول الموضوعية لمشاكلهـم الحقيقيـة ومعاناتهـم اليوميـة والعراقيـل التـي تقـف حائـلاً دون رؤيـة مستقبلهـم . فتراهـم يفرضـون آراءهـم الأصوليـة الجامـدة المتعصبـة الإقصائيـة بإستـخدام النـص الديني المقدس الذي لا يمكن المسـاس أو التحــرش بـه . وللتعويـض عـن ذلـك يلجـأون الى الجنوح للخرافة والشعوذة والقضاء والقدر ، لأن العلـوم العقلية فـي نظرهـم لا تنفـع ولا تفيد المسلـم أمام العلوم الشرعية ، لذلك نراهم يحاربـون المدارس المدنية وأساليـب التعليم الحضاري وكل ما له صله بالحداثة، فأصبحت المدارس والجامعات فـي البـلدان العربيـة والإسلاميـة مؤسسـات ذات منهـج الملالـي للتعليم التلقيني الببغاوي الذي يستخدم للذاكـرة القصيرة ، وحالمـا ينتهي فصل الدراسة يتبخر ما فوراً كل ما تعلموه خـلال الأثنـي عشـر سنـة أو أكـثر ، ويذهـب تعبهـم أدراج الريـاح . وهـذه الجامعـات يتخـرج بها سنويـاً آلاف الشبـاب ، ليجـدوا أنفسـهم أما بالشـوارع عاطلين عن العمل أو موظفين فـي الدوائر ذات الإدارة المتخلفـة والبدائيـة ، التي تعتمد على ذهنيـة التحريـم وتكبيـل العقـل المفكـر مـن ناحيـة ، وســوء إعـداد البرامـج التنموية العلمية لتطوير هؤلاء الدارسين فكرياً ومهنياً لما تتطلبه الحداثة والعصرنة ، من ناحية أخرى. وأنا على يقين بأن هذا التخلف في مجتمعاتنا لم يأتي بشكل عفوي بل هو مخطط لـه ومبرمـج بمـا يتـلاءم ومصالح الدول المتقدمة التي من مصلحتها أن تكبر المسافـة بينها وبيـن الـدول ذات المجتمعـات الغارقـة بالتخلف والتي إذا أردنا أن نجمّل صورتها ممكن أن نطلق عليها مصطلح " البلدان النامية " .
"لاحظوا ازدياد بناء المؤسسات الدينية من جوامع ومعاهـد ومدارس طائفيـة أكثر بكثير مـن المؤسسـات العلمية والتقنية والبحثية ، فهـذا لم يأتي عفوياً أو من فـراغ " (4).. وكذلـك فتح عشرات محطات التلفـزة الفضائية لبث الشعوذة والتخريف ذات البرامج الهابطة ، يقابلهـا صفـر مـن المحطـات العلميـة والتربويـة العصرية الحضارية ، وهـذا أيضاً ليـس عفوياً أو جاء من فراغ .. طباعة الكتب التافهة والمتدنية الملوثـة والمخربـة لعقـول الأطفال والشباب وتوزيعها مجاناً أو تباع بأقل من تكلفتها ، لم يأتي هذا عفوياً .
وبما أن مفتاح التجديد والتغيير والتطور هو الوعي ، إذاً لا بد مـن عرقلـة سعـي الشعـوب الإسلاميـة المتخلفة لإكتشاف أسباب تخلفها عن طريق إعادة إنتاج التخلف بما يتناسب مع مصالح الـدول المتقدمـة التي نجحت بتوسيع الهوة بين الطرفين ، معتمدةً على الإسلام السياسي ، وتكوين أنظمـة حاكمـة مستبدة تابعـة لها وقادرة على تخدير شعوبها الى الحد الذي يجعلها تستميت للدفاع عن تخلفها بحجة أن الإسلام في خطر .
الهوامش :
1 – كيف نواجه التحديات – د. أحمد عصيد
2 – محاضرة للشيخ يوسف القرضاوي
3 – ذهنية التحريم – د. صادق جلال العظم
4 – الإرهاب والفتنة الطائفية – اد. رفعت السعيد
يتبع الحلقة الثالثة