الدولة الطائفية هي الدولة التي تقيم نظامها السياسي على اساس تقاسم السلطة بين مكوناتها المذهبية وفقا لنسبتها من عدد سكان تلك الدولة ويسري هذا التحاصص في مختلف هياكل الدولة الادارية وعند  (مهدي عامل) فان الدولة، بحسب المنطق الطائفي، هي دولة الطوائف، وإنها شراكة لكل طائفة حصة اي موقع في السلطة بحسب توازن تقوم به الدولة فتدوم، هذا هو الوجه الاول وهو الوجه التمثيلي الطائفي اما الوجه الاخر للدولة الطائفية كلبنان  مثلا   فالسلطة فيه شراكة وهذا هو المفهوم الطائفي لكنها في واقعها الفعلي سلطة تمويهية فهي في حقيقتها ديكتاتورية مقنعة. فالنموذج اللبناني يقوم على اساس المحاصصة الطائفية اما في العراق فان المحاصصة قامت كما اريد لها امريكيا بين الطوائف والقوميات في اطار سياسي محدد كبديل مفترض عن النظام الديكتاتوري البعثي الذي كان يتخفى وراء ستار العلمانية وان حاول صدام حسين ان يحوله بالواقع الى ديكتاتورية طائفية كردة فعل لانتفاضة شعبية قوامها الطائفة الشيعية بحسب الطبيعة الديمغرافية في تلك المحافظات.

التفسير النظري الطبقي في الدولة الطائفية

يختلف الكتاب في تحليل الظاهرة الطبقية في الدولة الطائفية وفقا للمنهج النظري الذي يعتمدونه فمنهم من ينظر الى المسألة الطائفية على انها مجرد غطاء او انعكاس ايديولوجي لبنية اقتصادية اجتماعية وكأنها هي المقررة في التحليل النهائي. بل هي تعبير عن بنية مجتمعية شاملة تقوم على اساس المتحدات الاجتماعية المتمثلة بالطوائف التي تتجانس فيما بينها على اساس رابطة الدين والمذهب وتختلف فيما بينها على اساس تعدد الاديان والمذاهب ويتمثل نمط العلاقات التي تفرزه هذه البنية لا على المستوى الايديولوجي فحسب بل وأيضا على صعد البنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية كنمط يقرب او يباعد تبعا للتكوين الاساس في كل بنية من البنى التي يتألف منها الواقع الاجتماعي بمجمله. وعلى العموم يمكن القول ان الصراع الفكري في الدولة الطائفية يتحدد في تمحوره حول المسألة الطائفية كصراع بين فكر طائفي يتجدد او هكذا يدعي وبين الفكر الماركسي القائم على التحليل الطبقي في المجتمع اي مجتمع بما فيه المجتمع في الدولة الطائفية فسواء في لبنان والعراق فان الطبقات المهيمنة تتمثل في الطبقة البرجوازية الطفيلية والبرجوازية البيروقراطية والطبقة الكومبرادورية لذلك فحقيقة الصراع هي صراع طبقي على الارض وفي حقل الفكر وشكل هذا الصراع في نهاية الامر هو سياسي والتناقض فيه قائم بين موقفين طبقيين مختلفين  موقف برجوازي يدعو الى تأبيد النظام السياسي الطائفي وموقف نقيض يدعو الى تغيير هذا النظام الى نظام وطني ديمقراطي يعمل على تغيير هوية الدولة من الدولة الدينية الطائفية الى دولة وطنية ديمقراطية تحترم فيه الاديان كافة ويكون الاعتبار الاساس للمواطنة وهنا تستبعد الهويات الفرعية كافة سواء كانت مذهبية او قومية او مناطقية او عشائرية.

5- -1

السياق التاريخي لنشوء الديمقراطية

نشأت الديمقراطية كنقيض للاستبداد الذي ظهر عبر المراحل التاريخية فقد نشأت اولى مقدماتها في اثينا القديمة وتعرف الديمقراطية كفكرة وكنظام بأنها (حكم الشعب وبالشعب وللشعب) اما اصل مفهوم الديمقراطية فمشتق من الكلمة اليونانية democracy)) و(demos  ) اي حكم الشعب وقد نما هذا المفهوم بالتدريج بسبب الصراع بين صفوف الشعب والمستجدات التاريخية ففي حين كان الاحرار سكان اثينا الاصليون هم الذين يحق لهم ممارسة العمل السياسي من خلال سن القوانين وتعيين الحكومة والنظر في الامور الخارجية الاقتصادية والدبلوماسية وكل ما يتعلق بالعلاقات الخارجية من خلال مؤسسة شعبية يطلق عليها في عصرنا البرلمان ومن خلالها يمارسون حقوقهم كمواطنين احرار.

عيوب ديمقراطية اثينا        

ويبدو من خلال تطبيق هذه الممارسة التي سببت حرمان الطبقات الاجتماعية الاخرى وخاصة العبيد وأيضا النساء وهذا بمقاييسنا الحالية يعتبر عيبا من عيوب الديمقراطية ومع ذلك فان كثرة الحروب التي خاضتها روما وتفاقم النزعة العسكرية وما تبعها من اضطرابات داخلية اخذت الديمقراطية تتراجع شيئا فشيئا كل ذلك قاد الى تمركز السلطة بيد القيصر وبهذا خرج الرومان عن طبيعة اليونانيين. فديمقراطية اثينا كانت ديمقراطية طبقية.

ولم تقتصر الممارسة الديمقراطية على اثينا القديمة او روما التي تراجعت الديمقراطية في زمن حكم القياصرة، فقد ظهرت انماط اخرى من الممارسة الديمقراطية في الحضارات العراقية القديمة فقد عرفت بلاد وادي الرافدين شكلا من اشكال الديمقراطية البدائية حيث قامت على اساس جهاز شعبي يتمثل بمجلسين المجلس العام ومجلس الكبار فالمجلس العام يضم في عضويته المواطنين كافة من الذكور يعقد اجتماعاته يوميا لتصريف اعمال المواطنين اليومية، وفي هذه النقطة بالذات لا تختلف عن مجلس اثينا الذي لا يقبل النساء في عضويته بل اقتصر الامر على الاحرار.

الديمقراطية حصيلة لصراعات اجتماعية

ان تطور اشكال الديمقراطية وتشريعاتها وأشكال ممارساتها كانت نتاجا لصراع طبقي وفكري وسياسي على امتداد التاريخ الذي كان للجماهير الدور الاساسي في صناعته فالديمقراطية لم تستطع يوما الغاء الصراع الطبقي بين الاغنياء والفقراء وإنما تساعد على كشفه. ولم يكن الهدف البحث في التفاصيل كافة ذات الصلة بالديمقراطية ولكنني آثرت ان اتوقف عند بعض النماذج ذات المدلول التاريخي زيادة في المعرفة ولهذا سأتناول الديمقراطية التي استمرت من 28 آذار إلى 28 ايار من عام 1848 وكانت الاكثرية من ممثلي الطبقة العاملة كونها مثلت تاريخا مجيدا في الثورات الاجتماعية ذات المدلول الطبقي على قصر عمرها. فقد تشكلت كومونة باريس من اعضاء المجالس البلدية الذين اختيروا بالاقتراع الشامل في مختلف دوائر باريس ولم يكن الهدف من الكومونة ان تكون هيئة برلمانية بل هيئة عامة تتمتع بالسلطتين.

التشريعية والتنفيذية فقد الغت ديون العمال وألزمت مكاتب الرهن على اعادة ممتلكاتهم التي رهنوها.

ولا يفوتنا ان نذكر ان الصراعات بين الدول وخاصة الدول الاوربية التي كان طابعها اجتماعي قاد النظم الرأسمالية الى نقل هذا الصراع الى الدول الاخرى عبر حروبها فضلا عن تطور اقتصادياتها مما تطلب فتح اسواق جديدة خارج اطرها المحلية والاستحواذ على مصادر انتاج المواد الاولية احدث تسابق بين الدول الاوربية، فكانت الحربان العالميتان الاولى 1914-1918 والثانية  1939 – 1945 راح ضحيتهما ملايين البشر فكان عدد ضحاياها في الحرب العالمية الثانية مثلا 55 مليون انسان وكان من نتائج هاتين الحربين ظهور حركة جماهيرية واسعة تناضل ضد الحروب واحترام حقوق الانسان في الحرية والعيش الكريم والحق في العمل والثقافة وأدى كل هذا النشاط الى اتساع مفهوم الديمقراطية وتعميق افكارها وكرست نفسها لفك التناقض بين فكرتها وحقيقتها، بين ما تريد ان تكون وما تستحق ان تكون، وأنتج هذا التطور مذهبين في الفلسفة السياسية الحديثة احدهما يذهب الى اولوية الحق الطبيعي للإنسان وخاصة حقه في الحرية فيما يذهب الآخر الى ان للمجتمع وقيمه او اهدافه  اولوية بحيث يتقدم على مصلحة الفرد واستحقاقه.

الديمقراطية في الدولة الطائفية

يزعم صناع النظام المحاصصي الجديد في العراق بعد عام 2003 ان الديمقراطية في العراق هي النموذج الديمقراطي المثالي في المنطقة ويذهب البعض من المتفلسفين، الغارقين في الهوس السياسي حد النخاع، الى ان النموذج الديمقراطي في العراق هو ما يقف وراء ثورات الربيع العربي كعامل محرض وجاذب  للقوى الفاعلة في تلك الثورات متناسين تماما ان الديمقراطية في العراق بالرغم من فسحة الحريات النسبية، لم تكن سوى آلية يستخدمها صناع القرار الذين توحدوا في اطار سلطوي وظف لأغراض كثيرة وأهمها مصادرة الثروة وبذلك يرتبط مضمون هذه الديمقراطية من الناحية الاجتماعية بمصالح الطبقات المهيمنة على السلطة والقرار وهي الطبقات الاشد شراهة في مصادرة حقوق الطبقات الكادحة التي سحقتها حادلة النظام البعثي الصدامي المقبور واستكملتها حادلة الطبقة البرجوازية الطفيلية النهابة المشاركة في تغييب العدالة الاجتماعية مع قريناتها من الكومبرادور والطبقة البرجوازية البيروقراطية التي تصطف جميعها في اكبر عملية فساد مالي وإداري في تاريخ العراق لتسرق اكثر من نصف تريليون دينار عراقي وكما يقول مهدي عامل ((فالديمقراطية البرجوازية المسيطرة، ومن موقع نظرها الطبقي ليست طائفية الا انها ليست الديمقراطية، ذلك ان شرط وجودها كديمقراطية طائفية هو بالضبط، النقيض السياسي للنقيض الطبقي للبرجوازية المسيطرة، اي عدم تكون الطبقات الكادحة كقوة سياسية مستقلة في حقل الصراع الطبقي)).

السياق التاريخي لنشوء العلمانية

بدأت العلمانية في القرن السابع عشر في فرنسا وبرزت في بريطانيا في القرن الثامن عشر ومنذ ولادتها خضعت لنقاشات حاول الايديولوجيون تأطيرها وإعطاءها تفسيرات مختلفة كإحدى الظواهر البارزة في التاريخ الحديث وكانت في فرنسا اكثر تشددا او تصلبا وهذا مرتبط بمستوى العنف او الصراع الاجتماعي الذي سبق الدعوة الى العلمانية بوصفها مناهضة للدين اي للكنيسة التي كانت مهيمنة على السلطة محولينها الى قضية خاصة لا يمكن ان يظهر لها اي تعبير في المجالات التي تسيطر عليها الدولة وأيضا ينبع التشدد للعلمانية في فرنسا من ارتباطها بالثقافة الفرنسية في تفسيرها للعلمانية حدث ذلك في عهد لويس الرابع عشر من خلال تحويل الكنيسة الى كنيسة وطنية وكما في بريطانيا في حركة الاصلاح الديني  وهذا التشدد الذي حدث في فرنسا حدث في تركيا في نهاية الخلافة العثمانية وإعلان الجمهورية عل يد اتاتورك الذي حاول نقل التجربة البريطانية الا انه جوبه برفض ديني متشدد ما زال متعلقا بعهد الخلافة والمقدسات الدينية لذلك كان متشددا في تطبيق العلمانية ولمزيد من التوضيح فاصل العلمانية ليس من العلم بكسر العين ولكن اصلها من كلمة عالم بفتح اللام وصرح الدكتور عزمي بشارة على ان الترجمة لهذا التفسير جاءت من احدث القواميس العربية.

 في العالم العربي والإسلامي ووجهت العلمانية كمصطلح بسلبية شديدة ونظر اليها ايديولوجيا على انها عقيدة الحادية الا ان جمال الدين الافغاني حاول ادخال الحداثة الى الدين وتحدث عمن اسماهم بالدهريين وهم الذين يتحدثون عن زمن الدنيا وليس الزمن الآخر.

 والحديث عن العلمانية يدفعنا للحديث عن الديمقراطية فان العلمانية ليست سوى ظاهرة اما الديمقراطية فهي نظام ومن الممكن للديمقراطية والعلمانية ان يتماهيا في بعض الاحيان ولكنهما قد يتعارضان في احيان اخرى خاصة عندما تكون العلمانية شخصية لا علاقة لها بالنظام السياسي فهتلر وموسوليني وغيرهما كانا ديكتاتوريين ولكنهما علمانيان في آن. واللعبة الديمقراطية لا تدور بين هويات كما انها ليست صراعا بين هويات فرعية لان الاخيرة تسعى الى تقسيم الوطن. والدولة الديمقراطية ليست بحاجة الى ان تحدد نفسها بطابع ديني او علماني.

في مجرى تطور العلمانية ظهرت فكرة الناس على دين ملوكهم وهنا تحول الدين من الكنيسة الى الدولة ولهذا فان الحروب الاهلية عمت اوروبا ومن هذا المنطلق كانت الدولة الوطنية هي الحل للطائفية وولاء الدين للدولة هو الشكل الاول للعلمانية وقادت فكرة ان الناس على دين ملوكهم في اوروبا الى ان امير المقاطعة هو من يحدد الدين الذي يريد ولهذا السبب ظهرت اقليات كثيرة في الدولة مثال ذلك ملاحقة البريطانيين للبروتستانت.

ومما يجدر ذكره ان الحق الإلهي الذي أعطى به ملوك أوروبا لم يكن موجودا في القرون الوسطى إلا ان هذا الحق نجم عن الحداثة وأنتج ظهور أول شكل للعلمانية.

والأمر الآخر في تطور العلمانية ظهور فكرة التسامح على يد جون لوك وكان هذا الرجل يقود فكريا تيارا آخر في العلمانية فهو لا يرى ان الدنيا في حالة حرب وإنما هي الحل وبين ان ليس من حق الدولة حرمان الناس من ممارسة حقوقهم كما ان ليس من حق الكنيسة ان تهيمن بأي شيء يتعلق بالعقيدة.

الخلاصة

لا يمكن النظر الى الديمقراطية في بلادنا إلا بكونها مختزلة بصناديق الاقتراع التي لم تكن سوى آلية توظفها القوى الطائفية للوصول الى مراكز السلطة والقرار والجاه وبعض من المساحة النسبية لممارسة الحريات السياسية بطريقة عرجاء ومخالفة للدستور، وغياب العدالة الاجتماعية المتمثلة بالتوزيع غير العادل للثروة وتوفير فرص العمل للجميع وتقديم الخدمات للمواطنين العراقيين الى جانب بناء المؤسسات القانونية والاقتصادية والاجتماعية التي تتولى مراقبة تنفيذ التشريعات القانونية التي تعبر عن مصالح الشعب، وسن القوانين التي نص عليها الدستور، ومحاربة آفة الفساد التي انتشر اخطبوطها في مفاصل الدولة كافة والتي من خلالها تصادر الثروة الوطنية وحقوق الطبقات الكادحة.

ان استمرار نهج المحاصصة الطائفية الاثنية وتعميق الصراع الطائفي ونقله الى المحيط العالمي واستنهاض الخلافات التاريخية ونقلها من اعماق الماضي الى المرحلة الحالية، تحت ستار الاختلاف في المقولات الدينية، الاداة في تمويه الصراع الطبقي مما ادى الى تهيئة البيئة الطبيعية للاحتراب الطائفي، بمعنى آخر صراع دموي بين الهويات الفرعية الامر الذي صعد من الحاجة الى ابعاد الدين عن السياسة واحترام الظاهرة العلمانية التي تعني من وجهة نظر اخرى الاحتكام الى مبدأ المواطنة الذي يبدو ان القوى المتحكمة تزيد من اصرارها على المضي في النهج الطائفي حتى يذهب منظروها الى وضع العلمانية والإلحاد على قدم المساواة مما تدفع بوجهة التضييق على شريحة المثقفين المتنورين وقوى اليسار واتهامها بالكفر ما يتطلب من وجهة نظر القوى المتطرفة التي نشأت في هذه الاجواء الى محاربة الحركات التنويرية بمختلف الوسائل بما فيها اغتيال بعض الكوادر المفكرة، الشهيد  المفكر كامل شياع مثالا. وفي التحليل النهائي فان الدولة المدنية هي الحل وهي الكفيلة ببناء ديمقراطية حقيقية مقترنة بعدالة اجتماعية حيث ينعم الجميع بحقوقهم الدستورية.

عرض مقالات: