أقامت جمعية نهضة المرأة البحرينية ( اُسست 1955 ) قبل يومين احتفالية بمناسبة يوم المرأة العالمي ، وقد ألقت خلالها الناشطة في الحركة النسائية البحرانية الدكتورة منى عباس فضل محاضرة ضافية قيّمة تحت عنوان " مقاربة أوضاع المرأة العربية 50 / 50 " تناولت فيه على نحو مسحي شامل معززاً بالبيانات والاحصائيات أبرز أوضاع المرأة الراهنة في كل الأقطار العربية وماتم تحقيقه من مكاسب في ضوء أهداف التنمية المستدامة المعلن بلوغها حتى عام 2030 ، ومنها القضاء على الفقر ( وبالطبع النساء الكادحات والمهمشات أكبر ضحاياه ) ، وعدم المساواة بين الجنسين ، كما تناولت الباحثة ما حققته المرأة العربية من مكاسب بالارقام في مجال حقوقها السياسية ومنها اشراكها في صنع القرار السياسي ( وعلى الأخص في السلطات الثلاث : التشريعية والتنفيذية والقضائية ) ،  وما لدور نظام الكوتا في الدول الذي تأخذ به من دور في نيل المرأة العربية بضعة مقاعد برلمانية . ولم تغفل المحاضرة محدودية مقاعد المرأة او خلوها حتى في اللجان القيادية بالاحزاب العربية ، وخلصت إلى ان الارقام مازالت متدنية حتى في ضوء ما تم إحرازه من تقدم في هذا الصدد نظراً لطغيان الاعتبارات الولائية والقبلية والطائفية ،  سواء من جانب الانظمة العربية لاحتكارها حق التعيينات الوزارية كما يحلو لها ، أم من جانب النساء الناخبات اللواتي يتأثر وعي أكثريتهن بفكر  الاحزاب التقليدية ، وبخاصة الدينية  . كما عقدت  المحاضرة عباس مقارنة مدّعمة بالأرقام أيضاً   بين الدول العربية في ظل قوانين الاحوال الشخصية من حيث الثبات والتراجع واوجه التقدم النسبي المحرز في هذا الصدد  .  

وفي المداخلة التي ادليت بها من جانبي  حرصت على توضيح  حقيقة موضوعية لطالما تغيب عن أذهان المهتمين بشؤون حقوق المرأة العربية وتتمثل في ان الشوط الذي تحرزه  المرأة من تشريعات تقدمية لصالحها في أي مرحلة سياسية تاريخية إنما يعكس بالضبط درجة  التطور الاجتماعي السائد نكوصاً أم تقدماً ، كما هو مرهون أيضاً بمدى انخراطها في نضالات الحركة السياسية التقدمية داخل بلدانها أياً كان حالها مداً أم جزراً ، وعلى الأخص اليسارية والديمقراطية منها ؛ إذ لا نكشف جديداً عندما نقول ان افضل الفترات التي شهدت خلالها المرأة ازدهاراً نسبياً في انتزاع حقوقها هي ذاتها فترات صعود الحركات التقدمية واليسارية ، كما هو الحال في الخمسينيات والستينيات ، وكان لافتاً حينذاك ما تحقق من  قوانين متقدمة في بعض البلدان العربية المستقلة في مجال الاحوال الشخصية ، وعلى الأخص  في ثلاثة أقطار : تونس البورقيبية  ، والعراق خلال ثورة 14 تموز ، وهي ذات الفترة التي تم فيها تعيين أول وزيرة عربية ألا هي المناضلة الشيوعية الراحلة الدكتورة نزيهة الدليمي ، والقطر الثالث هو جمهورية اليمن الديمقراطية ، لكن أغلب هذه المكتسبات سرعان ماذهبت أدراج الرياح ، ذلك بأن البنية الاجتماعية التي لها شروطها الموضوعية المستقلة في التطور عادةً ما تكون بطيئة في تحقيقه ، بينما البُنية الفوقية التي هي انعكاس لدرجة  تطور الأولى  إلا أنها ليس بالضرورة أن تتطابق في مطلق الاحوال معها  -  لبطئها - في درجة التطور ؛  فلا غرابة بالتالي إذا ما حصلت انتكاسات وتراجعات في الحركة النسائية ( كمظهر من مظاهر البنية العلوية سياسياً وثقافياً  ) تبعاً لانتكاسات الحركة الوطنية والديمقراطية  التقدمية ما دامت السمات الموضوعية لتخلف البُنية الاجتماعية بقاعدتها المادية باقية على ثباتها او تقدمها البطئ ما لم يحدث لها نقلة من التحول النوعي .

كما أكدتُ أيضاً في مداخلتي بأنه مهما بلغ حجم عدد مقاعد النساء العربيات المكتسب في البرلمانات العربية ، او عدد اللواتي يتم تعيينهن في السلطتين التنفيذية والقضائية ، حيث قدمت المحاضرة احصائيات مُفيدة في هذا الصدد ، فإن ذلك لا يُعد مؤشراً مطلقاً على مكاسب جوهرية نالتها الحركة النسائية ،  وذلك إذا ماعلمنا إن وصول بضع  نساء إلى البرلمانات هن في الغالب يحملن ليس وعياً وفكراً ذكورياً استلابياً لحقوقهن فحسب ، بل وارتهان أغلبهن للانظمة الدكتاتورية التي ساعدتهن على الفوز ، أو لتأثرهن بدعايات الاحزاب  الرجعية والتي بطبيعتها تتبنى فكراً اسلاموياً سياسياً غير مستنير ، وترفض  - بإسم الإسلام - الاعتراف بحقوق المرأة التي أقرتها المواثيق والتشريعات الدولية وأخذت بتطبيقها الدول الديمقراطية العريقة وذلك  بذريعة أنها قوانين وضعية أو علمانية ، وتتصدى بكل قوة لإجهاض قوانين الأحوال الشخصية إذا ما تضمنت أي نسبة متدنية او أي نقطة في موادها هي لصالح حقوق المرأة .

تداعت الأفكار حينها  في مخيلتي إثر الانتهاء من مداخلتي نحو تأمل قانون الاحوال الشخصية المتقدم الذي صدر عام 1959 في العراق إبان ثورة 14 تموز 1958 ، وكذلك تعيين أول وزيرة عربية ويسارية في تاريخ العرب الحديث ، ألا هي المناضلة الشيوعية الراحلة الدكتورة نزيهة الدليمي ؛  فبقدر ما يُحسب هذين الانجازين بلا شك للثورة الا انهما ما كان ليتحققا لولا النضالات الشاقة والصعبة التي خاضتها في وقت مبكر منذ انشائها الاحزاب الوطنية ، وعلى رأسها الحزب الشيوعي العراقي ( اُسس 1934 ) ، ولاسيما خلال عقد الاربعينيات ، وكان لمؤسس الحزب يوسف سلمان " فهد " دور محوري في ايلاء مسألة أوضاع المرأة وحقوقها اهمية كبرى ، بما في ذلك حضها وتشجيعها على المطالبة بحقوقها والتخلص من أوضاعها المزرية سياسياً وطبقياً وجندرياً ( في ظل الوعي الذكوري الاجتماعي المديد المتسلط ) من خلال الانخراط في الاحزاب التقدمية المناضلة ومنها حزبه الشيوعي . ولدى عودتي إلى مكتبتي لاحقاً تذكرتُ كتاباً قديماً صدر قبل أكثر مو  40 عاماً إلا أنه مازال يحتفظ بقيمته العلمية رغم اصفرار أوراقه ، ألا هو كتاب  " كتابات فهد ، دار الفارابي - بيروت ، الطريق الجديد - بغداد ، حزيران 1976، ويتضح منه كما من غيره من الكتب العديدة أن هذا الحزب بقيادة قائده الشهيد فهد كان من أوائل الاحزاب الوطنية العربية  التي كانت تحتفل بيوم المرأة العالمي ؛ فتحت عنوان "يوم النساء العالمي 8 آذار " كتب فهد في نشرة القاعدة آب 1944 مخاطباً النساء العراقيات محفزاً إياهن على الانخراط في الحركتين  النسائية ولوطنية : " أين أنتن يا أخواتي العراقيات ، من النضال في الحركة النسائية الوطنية التحررية ، ومن الحركة التحررية الديمقراطية العالمية . إن حركتكن لا تزال مغلفة باصداف التحسس والتشوق ، ولم تجسرن بعد ، على تخليصها من أصدافها لتنطلق في السبيل الذي عليها ان تسلكه " أي سبيل النضال الفعلي . فالتحسس بالظلم لا يزيل الظلم، والشعور بالتأخر والنقص لا يبدلهما ، مالم توجد الارادة " . ( المصدر ص 408 ) . وفي فقرة اخرى من نفس النص يستطرد قائلاً :  " إن أمراض المرأة العراقية واضحة وظاهرة لعيون الواعيات ، لكن قليلاً منهن يجرأ على التساؤل أين تكمن جراثيم هذه الامراض ، أفي قلبها أم في رأسها ؟ أم في جسمها ؟ أم ان هذه الجراثيم تأتيها من مستنقع قريب " . ثم يجيب على تساؤلاته : " تكمن العلة الاصلية في فقدان بلادنا السيادة الوطنية ، اذ ان الاستعمار ، لكي يثبت مركزه في وطننا ، يسند الرجعيين ويقوي العادات الرجعية ، علاوةً لما في العادات من قوة على البشر . " ( المصدر ذاته ص 410 ) . وثمة كتابات عديدة له متفرقة سواء عن هذه المناسبة او عن حقوق المرأة بوجه عام ؛ منها على سبيل المثال لا الحصر ما تناوله د. كاظم حبيب ، ود. زهدي الداوودي في كتابهما الموسوم  " فهد والحركة الوطنية في العراق "  ، دار الكنوز ، بغداد ص 317 -327

وهكذا رأينا في الاقتباس السابق كيف ربط فهد بشكل ديالكتيكي بين تقدم الحركة النسائية وتقدم الحركة الوطنية من خلال تداخل مهامهما النضالية في سبيل نيل مختلف حقوقها ،  ولقد كان هذا القائد الحزبي الفذ رغم تعدد مشاغله النضالية المتشعبة طوال ساعات نهاره وشطر كبير من ساعات ليله من القادة الوطنيين اليساريين النادريين  في بلداننا العربية ذلك الزمان في القدرة على الجمع الخلّاق بين موهبة وإبداع قيادة العمل النضالي تنظيمياً وشعبياً من جهة وبين العمل الفكري التنظيري والسياسي من جهة اخرى على الرغم من حاجة كلا الجانبين إلى تفرغ تام طويل مستقل . لقد أعدمت السلطات الملكية العميلة للاستعمار الانجليزي "فهد " شنقاً ولم يعش سوى  أقل من 50 عاماً ، ورغم عمره القصير ترك لحزبه ثروةً فكرية لا بأس بها عظيمة القيمة من التراث الفكري والسياسي والخبرات النضالية ، فماذا لو  افترضنا مدّ الله في عمره الى سن ال80 من عمره ولم تطاوله أيدي الفاشست  في العهود اللاحقة المتعاقبة  فكم يا تُرى كان سيترك لحزبه وحركته الوطنية ومن ضمنها الحركة النسائية من ثروة أعظم من تراثه  السياسي والفكري مازال الكثير منه يتمتع بحيويته وصحته حتى على أوضاع العراق الراهنة . 

عرض مقالات: