يرى كثير من الاقتصاديين أن تطوير المشاريع الصغيرة والمتوسطة وتشجيع اقامتها، من أهم روافد عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الدول بشكل عام، والنامية منها بشكل خاص، وذلك باعتبارها منطلقاً أساسياً لزيادة الطاقة الانتاجية من ناحية، والمساهمة في معالجة مشكلتي الفقر والبطالة من ناحية أخرى، وقد كان من المفترض ان يمر القطاع الخاص والمشاريع الصغيرة والمتوسطة في العراق بالعديد من التغيرات الايجابية التي تدفع نحو توسعها وتنميتها وخصوصاً بعد الإعلان الحكومي في مناسبات عديدة على اتباع سياسات اقتصادية تعمل على التحول نحو اقتصاديات السوق وآلياته الحرة كما في الباب الثاني المادة (25) من الدستور العراقي والتي نصت على (تكفل الدولة اصلاح الاقتصاد العراقي وفق أسس اقتصادية حديثة وبما يضمن استثمار كامل موارده) وكان من المتوقع ان تتوجه الدولة نحو دعم المشاريع الخاصة الجديدة والناشئة الى مستوى يمكنها من منافسة البضائع المستوردة وتغطية الطلب المحلي، الا ان الواقع الذي فرض نفسه خلال السنوات السابقة كان خلاف ذلك، حيث لاتزال معظم المشاريع الصغيرة والمتوسطة تعاني مجموعة من المعوقات التي قادت معظم هذه المشاريع في نهاية المطاف الى الاغلاق بعد ان تكدس فوقها غبار الإهمال والتهميش في السنوات السابقة.
لقد اتفقت معظم الدراسات العالمية والمحلية التي تناولت المشاريع الصغيرة والمتوسطة على أهمية هذه المشاريع في التنمية الاقتصادية والاجتماعية حيث ذكرت تقديرات البنك الدولي الى ان مساهمة المشاريع الصغيرة والمتوسطة في الناتج المحلي الإجمالي للدول قد تصل الى 46‎ في المائة وان المشاريع القائمة في هذا القطاع تشكل نحو 80‎ في المائة من حجم المشاريع العالمية. بالإضافة الى كونها المحرك الرئيس للعملية الإنتاجية والاقتصادية والتي تعمل على زيادة الناتج المحلي الإجمالي، وخفض معدلات البطالة والفقر مع دورها في إنتاج سلع ذات فرص تصديرية قد تكون البديل الأمثل عن النفط في الدول ذات النهج الاقتصادي الريعي، وتعمل على التخفيف عن كاهل الدولة من خلال خلق فرص العمل للشباب فتقلل بذلك من اندفاعهم نحو التعيينات الحكومية بالإضافة الى ان هذه المشاريع تشكل الأرضية الصلبة للاقتصاد الوطني في مواجهة المؤثرات السلبية والانتكاسات مثل التضخم والكساد.
لقد تعرضت المشاريع الصناعية الصغيرة والمتوسطة في العراق الى العديد من النكبات والاخفاقات في السنوات السابقة بصورة أدت في نهاية المطاف الى تراجعها وعجزها عن المساهمة في بناء مناخ صناعي وانتاجي قادر على خلق فرص العمل، مما دفع نحو ارتفاع نسب الفقر والبطالة وتوجه الكثير من الخريجين وأصحاب الشهادات نحو التعيينات الحكومية بدلاً من بناء مشاريعهم واعمالهم الخاصة، مستهلكين بذلك معظم الواردات المالية المتأتية من تصدير النفط الذي ارتفع خلال السنوات السابقة دون استغلال هذه الإيرادات في ترميم البنى التحتية المحطمة وبناء واقع تنموي سليم، وترك الصناعات الوطنية التي كانت مهملة اصلاً تسحق تحت ضغط الإغراق السلعي للبضائع المستوردة التي اجتاحت البلاد تحت مظلة الباب المفتوح مع غياب الدعم الحكومي لهذه المشاريع والمعامل وعدم الالتفات اليها، وبالرغم من اهمية المشاريع الصغيرة والمتوسطة في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فان هذه المشروعات لم تحقق المساهمة المتوقعة منها حيث اعترضتها جملة من المعوقات يمكن ايجازها بما يلي :-ضعف التمويل من قبل المصارف وعدم جديته وواقعتيه، وقلة القروض الممنوحة مع ضعف الشفافية في عملية منح هذه القروض.
• سيطرة السلع المستوردة والتي تكون في الغالب رخيصة ومن مناشئ رديئة على الأسواق المحلية واستحواذها على حصص السلع المنتجة في الداخل عطلت الطاقة الإنتاجية المحلية مخلفة الكساد في انتاج العديد منها.
• ضعف أداء الجهاز المركزي للتقييس والسيطرة النوعية عمل على اغراق الأسواق المحلية بكل اصناف السلع الرديئة والمقلدة والتي يصعب على المنتج المحلي منافستها.
• غياب الدعم الحكومي بصوره المختلفة والذي تفتقده المشاريع الصغيرة والمتوسطة الامر الذي أدى الى اغلاق العديد منها وعدم قدرة الباقي على المنافسة.
• عزوف المستثمر الأجنبي وتردده في الدخول الى الأسواق المحلية بالرغم من صدور قانون الاستثمار الذي من المفترض ان يخلق الأرضية المشجعة لهذه الشراكة.
• الاجراءات الروتينية المعقدة والطويلة فيما يتعلق بتسجيل الشركة أو المشروع الاستثماري والتي قد تصل إلى (11) إجراء فضلاً عن تكاليف أخرى تحتاجها عملية تسجيل المشروع التجاري كتكلفة تحضير المستلزمات الأولية والأوراق المطلوبة وتكلفة الأجور اللازمة لفتح حساب مصرفي وغيرها من الإجراءات.
• ضعف وتذبذب الوضع الامني في الفترات السابقة شجع على استهداف رجال الأعمال و عوائلهم بالخطف أو الاغتيال مما أدى إلى هروبهم مع رؤوس الأموال خارج البلد وافقده لأهم مصدر من مصادر التمويل اللازمة لتحريك النشاط الاقتصادي.
• تردي واقع البنى التحتية مثل الطرق والجسور والمطارات ووسائل النقل والمنظومة الكهربائية التي تضررت بسبب الحروب المتعاقبة مما أثر سلباً على المشاريع المتوسطة والصغيرة.
إن معالجة هذه المعوقات من شأنها أن تدفع نحو تحقيق وبناء قطاع صناعي وانتاجي محلي قادر على منافسة السلع المستوردة بالإضافة الى توفير فرص العمل والحد من نسب البطالة والفقر ورفع مستوى دخل الفرد في المجتمع العراقي وزيادة معدلات النمو الاقتصادي وكسر الطوق الريعي الذي احاط الاقتصاد العراقي منذ عقود طويلة وما يمكن ان يمثله من فرصة حقيقية لتنويع مصادر الدخل القومي .
وبسبب الأهمية الكبيرة للمشاريع الصغيرة فان الضرورة تقتضي إيجاد بيئة مناسبة ومناخ عمل ملائم لهذه المشاريع من خلال النقاط التالية:-
1. إيجاد سياسات اقتصادية ومالية وضريبية ملائمة من بينها الإعفاء التام للمشاريع الصغيرة من ضريبة الدخل لفترة مناسبة تسمح لهذه المشاريع اثبات نفسها وتضمن نجاحها.
2. التأكيد على دور غرفة التجارة في العراق بدورها في دعم المشاريع الصغيرة من خلال الترويج لمنتجاتها ومساعدتها في تسويق منتجاتها في السوق المحلية والعالمية.
3. التنفيذ الفعلي والحقيقي لسياسة النافذة الواحدة، وتبسيط إجراءات منح الإجازات للمشاريع الصغيرة والمتوسطة وإزالة العقبات وسلسلة المراجع الروتينية.
4. تنمية القدرة على التنافسية للمنتج المتحقق من المشاريع الصغيرة والمتوسطة عن طريق الاهتمام بالجانب التسويقي وإيجاد السبل الناجحة للتسويق وإجراءات البحوث والدراسات التسويقية.
5. توفير الدعم الكافي للمشاريع الصغيرة من قبل البنوك الحكومية والتجارية وذلك بهدف تحقيق التنمية الاقتصادية والعمل على حل مشكلات البطالة.
6. تخفيض معدلات الفائدة وتخفيف الضمانات المطلوبة من قبل مؤسسات تمويل المشروعات الصغيرة للحصول على القرض والعمل على منح القرض بضمان المشروع نفسه فقط دون ضمانات أخرى.
7. الحد من الاستيراد المفرط والتفعيل الحقيقي لجهاز التقييس والسيطرة النوعية لمراقبة السلع الداخلة للبلاد لمنع دخول المنتجات الرديئة او منخفضة الجودة.
8. الدعم الكامل للإنتاج المحلي من خلال منع استيراد السلع التي من الممكن تصنيعها داخلياً او على الأقل فرض رسوم جمركية عالية على استيرادها تمكن الصناعة الوطنية من منافستها.
9. العمل الحقيقي والجاد على خلق بيئة استثمارية مثالية تعمل على جذب رؤوس الأموال الخارجية وتحافظ على رؤوس الأموال الداخلية (او ما تبقى منها) من الهروب الى الخارج.

عرض مقالات: