استهلال لا بد منه :

سور المدينةِ التاريخي الذي بقيت منه آثار قليلة حتى مطلع 2000 قبل ان يتم هدمه تماما وتبنى عليه محال تجارية ومدرجات جديدة وبها انقضى آخر عهد هذا السور التاريخي الذي كان يوما حائط صدّ الهجمات المعادية على هذه المدينةِ، فعندما بدأ السكن في هذه البقعة من الأرض توالت عليها هجمات الوهابيين من أراضي نجد من جهة وغزوات الأعراب للسلب والنهب من جهة أخرى، وإذ لم تكن حول المدينة مدن محصّنة أو بالعدّة الكافية لصدّ هكذا هجمات فلجأ أهلها إلى بناء سور حول المدينة يقيها هذه الاعتداءات المتكررة، فكان للنجف بمرور الزمن ستة أسوار: وبقي من السور بعض القطع والشواهد من قاعدته حتى وقت متأخر من تسعينات القرن الماضي إلى ان جاء النظام السابق فطمرآخر بقاياه وبنى فوقه محال تجارية ومدرجات حديثة للقادم من جهة(بنات الحسن).
هذا السور التاريخي الذي دثره الزمن واليد التي عاثت به تخريبا عن عمْدٍ أو إهمال، وكثير من التفاصيل التاريخية بحاجة إلى أن تكون دقيقة في النقل فعلى كل الأحوال هو أرث تاريخي وشاهد مهم لحقبة امتدت لألف عام تقريبا حتى يردم هذا السور تماما.

النجف كما عرفتها صغيراً مدينة مغمورة بالضوء الساطع والدفء المستمر الذي يرتفع إلى حرارة لا تطاق في الصيف.مدينة محاطة بالصحراء والفضاء، فضاء واسع ولا نهائي، ولم يكن لنا نحن الصغار آنذاك فضاء الحرية، بل على العكس كان يبدو هذا الفراغ كجدار من النور لا يُسمح لنا تخطيه، كنا في سجن ذو حدود وهمية ونسمع من الكبار قصصاً غريبة ومدهشة عن السراب والعطش .في وسط المدينة كان المعمار قديماً جداً؛ حيث الأزقة الضيقة والبيوت المتماسكة ببعضها البعض، بيوت ذات أبواب عتيقة، والتي تبدو وكأنها تقص تاريخ حياتها عبر الآثار التي تركتها أيدي البشر الذين ولدوا وماتوا فيها عبر القرون، وكلما توغلنا في الدروب الضيقة القليلة البشر، نُفاجأ هنا وهناك بسوق ممتلئ بالناس الذين يأتون للتزود بالمواد الغذائية، أو الطلب من هذا المهني أو ذاك بعمل حاجة ما، كان الفن اليدوي متداولاً عبر عشرات المهن القديمة. العلاقات الاجتماعية المتينة، والمحبة العائلية أيضاً، ًلها دور مهم في تكوين النظرات الأخلاقية في الوجود.صور محفورة في الذاكرة كالنقش في الحجر، وأرجو أن لا يبدو لكم أن عالمنا هذا كان صغيراً وضيقاً.فإن وسط المدينة السوق الكبير الذي يسلكه جمهور غفير من أماكن متعددة في العالم إلى صحن مرقد والحضرة المباركة للإمام علي ، يجعلنا نعرف أن شعوباً أخرى توجد في العالم .

اعود للعنوان ( نسوان السور ) قبل ستين سنة والشارع الذي شيد حول النجف وهو محاذي للسور القديم ومن بقاياه ويمتد من مدخل بيرعليوي لفتحة الشوافع او الثلمة ثم مرقد " صافي صفى ، ومقام زين العابدين " والذاكرة تحدد من درعية عطية ابو كلل ثم مركز شرطة الدرعية" المخفر" الى نهاية عكد الساده البوجريو بعد تقاطعه مع شارع الخورنق حيث السور يأخذ بالدوران خلف ثانوية الخورنق وخان الشيلان ليصل الى باب الولاية وميدانها . آه لا توقظ الذاكرة ياأبن غلآم ! فما آن لنا بعد أن نهز الدفوف ، والسطوح الغافيه بالسر والبوح ، بين ارواحنا واجسادنا ينكسر الإيقاع ، ولا حرامية تحوف ، كان ناطور الشعب "سيد محسن جريو ابو فاضل " بالحزم معروف ، فهل نبقى في العراء وقوفأ !؟ انا اعرف بالطبع ان زماني هذا غريمي وان الذي لي منه قليل والذي فاتني أن احصله فر من قبضتي والذي أتذكره واحن له ان ادونه هو حلم جميل .. إن المدينة التي تربيت فيها في صباي ثم ألفتها وأحببتها كعاشق مدنف بالعشق في داخل سورها واطرافها الاربعة ، ثم هجرتها نفي عنها!؟ ثم عدت لأجد المدينة غير المدينة والناس غير الناس؟! والزمان غير الزمان.. ها هي تلك المدينة التي افتقدها وأنا فيها تعود إليَّ بعد أن استردها الاحتلال الامريكي وطرد حزب البعفاشستية بالقوة.. قوة إرادة الحياة . وكان الشعب أعزل في الحياة .

في كل يوم وقت العصاري تجتمع نسوتنا على هيئة تجمعات صغيرة في رأس كل عكد او دربونه او دولان نرى تجمع النسوان يمتد على طول شارع السور من منطقة الدرعية حتى نهايتها في عكد البوجريو. ففي اعكود البراك او الاطراف الآخرى كالحزيش والعمارة والمشراك ، لاتوجد هكذا تجمعات نسوية العكود ظيقة والبوتات متلاصقة واعرض عكد فيها لا يتجاوز 4 امتار فقط لذلك نرى البيوتات التي تطل على شارع السور وكان بعرض مناسب حوالي 8 امتار ويتسع ايضا الى 10 امتار وخاصة من تقاطع فلكة شارع الرسول حتى يضيق عند بنات الحسن مدخل عكد خانيه . العصريات يكنسن اعتاب بيبانهن ويرشنها بالماء ويفرشن الحصران المصنوعة غالبا من " نبات الأسل " او من اللباد والذي نسميه " كنبار" وهذه الجوقات تسمى بأسماء بعض النسوة والاحاديث تطول والصبايا مابين السطوح والسراديب والحكايات والاطفال تمرح وتلعب في وسط شارع السور . قليلا ما تأتي سيارة اما لنقل بضاعة او مريض او عائله تسافر او عائدة من السفر وبعضهم يملك سيارته الخاصة الصالون فيركنها امام الدربونه او العكد الذي يفضي الى داره وبعضهم عنده سيارة حمل " القجمه " نعود لجوكات النسوه واحاديثهن مع تعمريات الشاي والشرابت من العصير والسكنجبيل ولبن دوغ مع بعضهن يدخن السجائر( مبزبن ، ولف ) قليلا من تشتري سجائر معلبه معمليا حيث السعر والحالة المعاشية . كنا نمر نحن الصبية المشاكسه " كنت وكيحا جدا مع ذكاء وحدس ؛ كانت ام مسلم وهي احد قياديات جوقة من النسوان تناديني ( ذيبان المشيطن ) وكان لايمر شاب او شخص إلا ان يتناوشنه وتناهشنه بالقيل والقال فيما بينهن . والاخبار تتوزع على نساء الطرف صدقها وكذبها كأنهن يلقين المحاضرات والحفلات بصدر رحب حتى فئة الملتحين " الموامنه" الذين كانوا يحملون في أذهانهم الإسلام لم يكونوا من متشدد حينما يمرون . كن يتناقشن مع أغلبهن بكل أريحية وديمقراطية مطلقة ؟؟هههههه .. هذه لمة أم حسن وتلك جلسة سعيده أم رشيد وهذه جوكة ربوعه وهذه جماعة فلانه او علانه وهكذا في عصريات النجف الزاهيه وصوت السهارى وأعجبني في هذه الفئة النسوية أنهن يسألن دوما وليست لديهن عقدة في حرية المرأة مثلا… فهي موجودة بجميع المصالح … وحسب استنتاجاتي فهي العمود الفقري داخل الأسرة وهو كذلك ؟، فلا حرج أن يحدث التعامل معها بشكل إنساني مساواتي وقد تعلمت شيئا مهما بهذه المدينة ، النجف في العراق الاشرف ، وهو احترام هذا الكائن ـ وأقصد المرأة ـ رغما عن أنوفنا ، وهي فعلا مدرسة بعيدا عن نظرة بعض المجتمعات المتزمتة الذين يروا عكس هذا ..كانت اعكود البراك والحويش بداية الستينات وحتى السبعينات وقبلها الخمسينات من القرن الماضي ، بمثابة الاسواق التي نتسوق فيها " سوق جبر الليباوي " وسوق الهرج وكذلك مدخل عكد سوق الحويش لاخ… لم أشعر فيها ولو مرة بالملل على الرغم من صغر حجمها…وربما هو الثقل التاريخي الذي ما تزال شواهده قائمة…ولازالت الكتب عنها تروي ..وقد حدثني محدث أن معظم كوادرها وعقولها النوابغ غادروا نحو وجهات متفرقة، لكن رغم ذلك لازال مفعول التاريخ قائم وحي كالقلب ينبض، وما زال سور النجف له نكهة الذاكرة و مضربا لصمود النجف والتحضر في عقولنا ، فالنجف مدينة حضرية مدنية نضالية واضافة لكونها فيها مرجعية للمذهب الشيعي الاسلامي كقطب ينافس القطي الآخر الموجود في قيادة المذهب الجعفري الشيعي واقصده مدينة قم الإيرانية مع اختلاف المراجع في رسائلهم العملية وافتائاتهم المذهبية رغم انهم ينهلون من منهل واحد هو المذهب الشيعي الجعفري... وخان الشيلان رمز تاريخيا ،وما ثانوية الخورنق ، إلا أحد القلاع التي نبتت بها أظافر شخصيات مرموقة وطنيا وعربيا وعالميا … ومازالت هذه المدينة النبية الغري او الثويه او النجف ونفحاتها بالعشق عندي محبوبة وصامدة رغم كل النكسات التي مرّ بها هذا الوطن الشاسع؟، وستظل ورشة لصناعة الذكريات الجميلة والحميمية.

 

 

 

 

عرض مقالات: