كانون الثاني من العام 1948 كانت تدور في ميناء بورتسموث البريطاني مفاوضات بين وفد عراقي يترأسه رئيس الوزراء صالح جبر ووفد بريطاني يترأسه وزير الخارجية البريطاني انورين بيفن من اجل التوقيع على بنود معاهدة بين البلدين تحل محل معاهدة عام 1930 وبالتأكيد كانت ستكون أكثر جوراً على العراق والعراقيين من سابقتها.
وفي اوائل ذلك الشهر تناخى العراقيون من اجل الحيلولة دون التوقيع على تلك المعاهدة وكانت بداية التحرك تظاهر طلبة دار المعلمين في بغداد وكان شعارهم المطالبة بإسقاط حكومة صالح جبر والغاء معاهدة بورتسموث. وكانوا واضحين جداً في شعارهم ومطالبهم.
تدخلت الاجهزة القمعية للنظام واطلقت النار على الطلبة وهم داخل حرم المدرسة فاستشهد ابن الشامية البار الطالب شمران علوان. وكان اول شهيد من شهداء الوثبة.
في اليوم الثاني تجمع الطلبة في بناية كلية الطب المجاورة للمستشفى العام في باب المعظم وذلك من اجل تشييع زميلهم الشهيد وتجديد المطالبة بإسقاط حكومة صالح جبر والغاء معاهدة بورتسموث.
تدخلت الاجهزة القمعية من جديد واقتحمت حرم الكلية فاتحة النار على الطلبة داخل حرم الكلية فاستشهد ثاني شهداء الوثبة الطالب قيس الآلوسي.
فوراً دعى الطلبة عميد الكلية وكان الدكتور هاشم الوتري الذي كانوا يعتبرونه أي زعماء النظام واحداً منهم، دعاه الطلبة للخروج الى الساحة ومشاهدة ما قام به رجال النظام والقاء نظرة على الطالب الشهيد الممدد على الارض مضرجاً بدمائه واجزاء من رأسه متناثرة على الارض.
استاء الدكتور الوتري من تصرف الاجهزة القمعية فقرر تعليق الدوام في الكلية.
واستاء اهل بغداد من سلوك الحكومة فانطلقت تظاهراتهم تملأ شوارع بغداد وهي تهتف ساخرة (نوري السعيد القندرة وصالح جبر قيطانها) وتطالب بإعدام الاثنين.
ارتعب الوصي على العرش مما يدور في بغداد وامتد الى الالوية وابرز المدن العراقية فأخذ يعقد الاجتماع اثر الآخر لرؤساء الوزراء السابقين وزعماء الاحزاب المجازة رسمياً سواء كان في القصر الملكي (قصر الرحاب) او في البلاط الملكي.
الموظف في تشريفات البلاط الملكي السيد عبد الرزاق الهلالي في مذكراته وهو الذي كان يمسك بالمحاضر لتلك الاجتماعات، كتب ان الاستاذ كامل الجادرجي رئيس الحزب الوطني الديمقراطي في احد تلك الاجتماعات ابلغ الوصي بأن ما يدور في المدن العراقية من احتجاجات وتظاهرات هو رد فعل الشعب على سلوك النظام المعادي للديمقراطية واثنى على كلام الاستاذ الجادرجي الاستاذ محمد مهدي كبه رئيس حزب الاستقلال الذي كان يحضر تلك الاجتماعات ايضاً. ومن الجميل تاريخياً ان الاستاذ محمد مهدي كبه اكد في اول تلك الاجتماعات ان التظاهرات الموجودة هي تظاهرات شعب ولها قياداتها الوطنية وان الحزبين ما زالا خارج تلك التظاهرات مشيرين بذلك ضمناً الى ان القائد لتلك التظاهرات هو الحزب الشيوعي العراقي الذي كانت قيادته الميدانية والتي تتكون آنذاك من الثنائي مالك سيف ويهوذا ابراهيم صديق كانت تستلم توجيهاتها من الشهيد فهد الذي كان آنذاك سجيناً في سجن الكوت هو والرفيقين عضوي المكتب السياسي الشهيدان حسين محمد الشبيبي وزكي محمد بسيم ومما يؤكده الرفيق عزيز سباهي في مؤلفه عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي ان الشهيد فهد في رسائله آنذاك الى القيادة الميدانية والتي كانت تنقلها منه اليهم الرفيقة ايلين زوجة ابراهيم ناجي الذي اعتقل الشهيد فهد في بيته عام 1947 كان يؤكد ضرورة المطالبة بإلغاء المعاهدتين سوية وليس الاكتفاء بالمطالبة بالغاء معاهدة بورتسموث.
في مؤلف السيد عبد الرزاق الهلالي تأكيد على انهم في البلاط علموا أن احدى التظاهرات متوجهة الى بناية البلاط لمقابلة رئيس البلاط وعرض مطالبهم عليه ووصلت التظاهرة فعلاً وقابلهم رئيس البلاط فأجابهم بأنه (سينقل وجهة نظرهم الى الوصي على العرش) فعلقت احدى المتظاهرات بالقول (قيّم الركاع من ديرة عفج). وغادروا.
اتسعت التظاهرات وكان الشهداء يتساقطون الواحد بعد الآخر، وكثر عدد الجرحى نتيجة اطلاق الرصاص عليهم من قبل الاجهزة القمعية. واتسع عدد الاطراف الذين اشتركوا في الوثبة ولأجل التنسيق بين تلك الاطراف شكلت لجنة تنسيق من ممثلي الاحزاب والمنظمات الاجتماعية لتتولى قيادة التظاهرات وجعلها اكثر تنظيماً بعيداً عن العفوية والاجتهادات الفردية، لجنة تعاون وطني كفوءة يعتمد عليها اعتماداً كلياً الوصي امام اتساع التظاهرات ومن اجل تضليل الشعب وخداعه وبث الخدر فيه اوعز الى البلاط ليصدر بياناً باسم البلاط وليس باسم الوصي، يعلن فيه ان الوصي يتعهد بان لا يوقع أي بيان او وثيقة لا يرضى بها الشعب.
ولم تنطل على الشعب اية كذبة او خديعة او محاولة تضليل فلم يعر أي اهتمام لذلك البيان التخديري من جانب النظام واستمر في تظاهراته ومطالبته بإسقاط حكومة صالح جبر والغاء المعاهدة.
حاول الوصي الاستعانة بالجيش فاستدعى رئيس الاركان الذي كان آنذاك السيد صالح صائب الجبوري والذي كان مطلعا بشكل تام على احداث ثورة شباط 1917 في روسيا القيصرية وكيف كانت الالوية العسكرية والافواج العسكرية التي يستدعيها القيصر الى العاصمة سانت بطرسبورغ لمواجهة تظاهرات الشعب كيف كانت تلتحق بالشعب الواحد بعد الآخر فاسقط في يد القيصر وتخلى عن العرش وغادر العاصمة هو وعائلته ليتخفى عن الانظار في احد الجبال ويعثر عليه بعد ثلاث سنوات ويعدم هو وافراد عائلته، صالح صائب نصح الوصي بعدم زج الجيش في مواجهة الشعب وانه عليه الاستجابة لمطالب المتظاهرين الذين زاد سخطهم على النظام الذي ارتكب مجزرة جسر الشهداء يوم 27 كانون الثاني فاضطر الوصي الى استدعاء صالح جبر والطلب منه تقديم استقالته وتكليف السيد محمد الصدر بتشكيل وزارة تهدئة وانتهت احداث الوثبة لتضاف الى سجل امجاد الشعب العراقي.
هذا ما جرى في العراق عام 1948 أي قبل واحد وسبعين عاماً هي المسافة الزمنية بين كانون الاول -كانون الثاني 1947-1948 وكانون الاول وكانون الثاني من العامين 2018-2019 فما اشبه الليلة بالبارحة.
منذ انطلاق الاحداث الجارية في السودان الشقيق وانا اتابع ما ينشر عنها في اجهزة الاعلام المقروءة والمسموعة والمنظورة وافتش بينها عن مظاهر الشبه بين ما يجري في السودان وما جرى لدينا في العراق ايام الوثبة.
ان ابرز اوجه التشابه هو فطنة الجماهير السودانية الى المحاولات الحكومية لتضليلها و خداعها وبث الخدر لديها فلم تنطل عليها لحد الان تلك المحاولات.
لقد اكد زعماء النظام أنفسهم وعلى رأسهم رأس النظام نفسه أن ما يجري في السودان الآن هو نتيجة تراكمات كثيرة ومنها شيوع الفقر في السودان وهو الذي يجري في اراضيه النيل الخالد لكنهم لم يشيروا لحد الان الى ان نهجهم في ادارة الدولة كان نهجاً خاطئاً اساؤوا باسم الاسلام السائد في القسم الشمالي الى شعب الجنوب المسيحي واوغلوا كثيراً في تفرقتهم الدينية تلك بحيث كانوا بين آونة واخرى يجندون ضد شعب الجنوب حملاتهم العسكرية وجرائمهم الوحشية حتى اضطروهم الى التصويت باستقلال الجنوب فتصبح دولة السودان دولتان وليس دولة واحدة.
لم يعترفوا لحد الان بأنهم حرموا شعبهم من التمتع بنعم الحرية والديمقراطية ومارسوا سياسة الاستئثار بالسلطة وتهميش الرأي الآخر والاطراف السياسية الاخرى فاختاروا لأنفسهم سياسة القمع سواء أكانت في الخرطوم ام في ام درمان او دارفور او كردفان بحيث لم يعد في القوس منزع فانفجر الشعب بوجههم وها هو الشباب السوداني يملأ الشوارع وهو يهتف (حرية) (حرية) (حرية) (سلمية) (سلمية) (سلمية)-(الشعب يريد اسقاط النظام) ويطالبون عمر البشير بالرحيل.
وها هو الحزب الشيوعي السوداني يطرح في بيانه الذي نشرته قبل ايام طريق الشعب (الحل الوحيد للازمة السياسية في السودان هو اسقاط النظام) فهل سيواصل الشعب السوداني نهوضه الثوري الحاسم الحالي حتى رحيل النظام مثلما فعل شعبنا عام 1948 الذي لم ينسحب من الشارع حتى رحل صالح جبر عن السلطة والغاء معاهدة بورتسموث؟
هذا ما ستجيب عنه الايام وربما الاسابيع القادمة مع اني لا انسى ما قاله ماركس قبل اكثر من مائة عام بما معناه أن من السهل صنع التاريخ لو كانت الامور تسير باتجاه واحد ليس اكثر وان النتيجة تكون النجاح دائماً، وما قاله انجلز في مؤلفه "لودفيغ فورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الالمانية" من ان حركة التاريخ تتم من خلال تصادم الارادات المختلفة والمتعاكسة والمتضادة وعبر الألوف من الصدف التي تتجسد من خلالها الضرورة الموضوعية.

عرض مقالات: