ظاهرتان من مظاهر المقاومة الشعبية ضد الفكر المنحرف وتسلط احزاب الاسلام السياسي وميليشياتها، برزتا بشكل واضح، ألقتا الرعب في قلوبهم، الأولى حدثت في مدينة البصرة المنتفضة والأخرى كان لها مكان في كل الوطن العراقي، ومسّتا كل ما يعتبرونه غير قابلاً للمساس ولن يجرأ احد عليه... أشرتّا ايضاً الى حدوث تغيّر في المزاج الشعبي، ليس لصالحها :

 الظاهرة الأولى هي التظاهرات الشعبية العفوية العارمة في مدن الجنوب وخاصة في محافظة البصرة، وحرق مقرات احزاب الاسلام السياسي الحاكمة المتورطة بالفساد في عدة مدن عراقية، تعتبر معاقلاً لها، وفي مدينة البصرة خصوصاً، بعد احتجاجات شعبية غاضبة.

 لاشك ان عمليات الحرق ليست أنجع الطرق لردع تخريب هذه الأحزاب المتنفذة لكيان المجتمع العراقي، ولكن يجب الأعتراف ان شباب البصرة المنتفضين لم يلجأوا الى هذا الخيار الا بعد ان استنفذوا كل الخيارات الأخرى وبعد ان جرى استهدافهم بالرصاص الحي وتسامي العشرات منهم شهداء .. وما تخرصات قيادات الاحزاب المحروقة بوجود اجندات خارجية تقف وراء هذه الافعال، إلا مجرد هراء، لأن احتجاجات أهالي اغنى مدينة في العراق، البصرة وشبابها  ضد الفساد واحزابه، لم تأت من فراغ او عن بطر بل عن معاناة مديدة هي اكبر من اي دفع خارجي يحرض شبابها على الانتفاض، بعد ان اصبحت قضيتهم قضية حياة او موت وتسمم الآلاف منهم وعدم توفر ماء صالح للشرب في مدينة الأنهار... عدا غياب أبسط الخدمات التي تشترك في فقرها مع المدن العراقية الأخرى.

 اما الظاهرة الثانية فكانت، الرفض الشعبي العام لفتاوى الفتنة التي اطلقها رجال دين مسلمين من الشيعة والسنة ضد مشاركة مواطنينا المسيحيين اعيادهم بل وحتى تهنئتهم بها، والذي تجلى بالرد الشعبي السريع، بتبادل واسع النطاق للتهاني بمناسبة أعياد الميلاد الكرسمس، كان لها مكان في وسائل التواصل الأجتماعي ايضاً، وجرى تزيين اشجار اعياد الميلاد في الشوارع والمحلات وبيوت المواطنين وتبادل الهدايا وانتشرت مظاهر الفرح في كل مكان.. ثم تلتها مساهمة اعداد غفيرة من المواطنين في تجمعات احتفالية ليلة قدوم السنة الميلادية الجديدة لم تشهد البلاد مثيلاً لها،  وفي مناطق متعددة من البلاد وفي العاصمة بغداد بالخصوص، ختمت بالألعاب النارية البهيجة، رغم انف التكفيريين.

هناك طبعاً، ظواهر مقاومة لمرامي تأطير المجتمع بأتجاه سلفي مغلق، تقوم بها مؤسسات مجتمع مدني مسجلة رسمياً، ولكن تبقى لهاتين الظاهرتين الجديدتين، موضع الحديث، أهمية معنوية خاصة وبالغة الخطورة، فبالأضافة الى طبيعتهما الشعبية الواسعة وعفويتهما، فأنهما هزّتا كيان الاسلام السياسي من الداخل وهزأت من تسلط احزابه... فهي هشمت كل ما بنته هذه القوى من هياكل قدسية زائفة حول احزابها وميليشياتها ومطلقي فتاواها، وكسرت حاجز الخوف النفسي منها.

لقد تنبهت قوى الطائفية السياسية بعد القضاء على داعش الى مخاطر تصاعد المشاعر الوطنية الجامعة عليها، والى تنامي الوعي الشعبي وتصاعد مظاهر الرفض العام لسياساتها التجزيئية ونهبها للمال العام، مما دفع ببعض شيوخها، لحرف الأنظار عن المآسي الحقيقية التي يكابدها المواطن العراقي، بالحديث عن انتشار الألحاد في اوساط الشباب العراقي، وهو ظاهرة، ان وجدت بالسعة التي يدّعون، فهي لم تنشأ الا من رحم الرفض لنزواتهم  ولقيمهم وافكارهم المتخلفة، فالشيْ بالشيْ يُذكر والتزمت الديني يستدعي نقيضه.

 وبفتاويهم الأخيرة ارادوا العودة بالوضع المجتمعي الى ايام امجادهم الخوالي.. ايام الأحتراب الطائفي قبل تتويجه بأحتلال ارهابيو داعش لمدن وحواضر عراقية مهمة وابادة اهاليها، لكن المواطن العراقي، ألقمهم الحجر، في رد بليغ، بمشاركته الواسعة بأحتفالات السنة الميلادية الجديدة.

ورغم ان حديثنا يتركز على ظاهرتين عفويتين شعبيتين بأمتياز، لابد من الأشارة الى مُتغير ايجابي، لم يكن في حسبان الأطراف المتحاصصة الحاكمة، ومزعج لها، افرزته السنة الماضية 2018... اتخذ طابعاً  سياسياً حزبياً تلتقي منطلقاته واهدافه مع التطلع الشعبي الى التغيير، وهو ظهور " تحالف سائرون " وبرنامجه الواعد الداعي الى نبذ المحاصصة كنهج وبرنامج، وتبني بديل جديد ... برنامج الدولة المدنية الديمقراطية والعدالة الأجتماعية، والذي له أمتداد مؤثر في مجلس النواب الحالي بعد فوزه بأكبرعدد مقاعد في الدورة البرلمانية الجارية.

لا ندعي ان " الدنيا گـمرة وربيع " ولا حتى ستصبح كذلك في المدى القريب ولكن عملية الصراع مستمرة، وعلى قوى التغيير ان تحسن ادارتها !

ان هدف تحويل الأمكانية الى واقع، هو ما ينبغي ان يدفع كل القوى الوطنية والديمقراطية الحقيقية الى التضافر من أجله والظفر به !