عمت مدن بلادنا في الاشهر الاخيرة موجة من الاعتصامات والتظاهرات والفعاليات الاحتجاجية الاخرى. ولم يأت ذلك بمعزل عن اللوحة السياسية المعقدة في بلادنا، والمعاناة المتواصلة - المعيشية والخدمية والحياتية للمواطنين، منذ نيسان 2003، والناجمة ايضا عن انتشار البطالة، وتقليص مفردات البطاقة التموينية، وارتفاع الأسعار، والتضخم الذي ابتلع الزيادات في رواتب الموظفين والمتقاعدين وفي اجور العمال ومداخيل بقية الكادحين، والنقص الحاد في تجهيز الكهرباء والماء الصافي والمحروقات، واستشراء الفساد والافساد. تضاف إلى ذلك مساعي التضييق على الحريات العامة وتقزيم هامش الديمقراطية، و تكميم الأفواه، في مخالفة صريحة وواضحة للدستور.

وبعد الموجة الاخيرة لتظاهرات البصرة التي انطلقت في اواسط تموز ٢٠١٨، والتي لخصت مطالبها بــــ " حل ازمة المياه وملوحتها، ومشكلة الكهرباء وانقطاعها المستمر، وتوفير فرص عمل للشباب وخصوصاً الخريجين منهم "، هذه المطالب دفعت أهالي البصرة وخصوصا الشباب منهم الى الاحتجاج السلمي على الأوضاع المزرية التي تمرُ بها محافظة البصرة من انعدام الخادمات العامة للمواطن وعدم تلبية المطالب المشروعة من قبل الحكومة المحلية والحكومة المركزية التي تتحمل المسؤولية التامة عن معاناة أهالي البصرة بسبب عدم اطلاق التخصيصات المالية الخاصة بالمحافظة التي تساعد أو تحد كحد أدنى من ما تعانيه البصرة وسكانها العزل، وتصاعدت حركة الاحتجاج ووصلت الى الاعتصامات للضغط على اصحاب القرار لتنفيذ مطالب المحتجين من عموم البصرة بما فيها اقضيتها ونواحيها التي اخذت حيزا كبيرا من الاعتصامات وخصوصاً الاقضية التي توجد فيها حقول النفط والمستثمرة من قبل شركات النفط العالمية جراء جولات التراخيص النفطية .. ولكن في نهاية المطاف جوبهت هذه التظاهرات باستخدام الرصاص الحي والغاز المسيل للدموع والتي راح ضحيتها اكثر من عشرة متظاهرين من الشباب فضلا عن اصابات متعددة بين صفوفهم.

وبعد تراجع حركة الاحتجاج وانحسارها نسبياً، بسبب الاحداث الاخيرة التي مرت بها المحافظة من حرق مقار الاحزاب وفصائل الحشد الشعبي، اطلقت القوات الامنية والسلطات في المحافظة حملة اعتقالات واسعة لناشطي التظاهرات .. وهذا احد مساعي التضييق على هامش الديمقراطية، وعلى الحريات العامة والخاصة، اخذت في الفترة الماضية منحى متصاعدا، تجسد في العديد من الممارسات التي اقدمت عليها السلطات المركزية والمحلية ومجالس المحافظات، في خرق جليّ للدستور حينا، وفي اعتماد الانتقائية في تطبيق مواده وتفسيرها حينا آخر، كما يحلو للمتنفذين ويتجاوب مع مراميهم وسعيهم الى فرض نمط واحد من التفكير واسلوب العيش والحياة والسلوك، تحت ذرائع مهلهلة لا تغطي اهدافهم الحقيقة .

وفي ظل هذه اللوحة المعقدة واستمرار بعض الفعاليات الاحتجاجية، نشطت اخيرا في البصرة موجة القتل والاغتيالات لناشطات وناشطين وخصوصا الشباب وهذا يتطلب الالتفات اليه بشكل جدي ويتطلب في هذا المجال حزمة من الاجراءات اللازمة التي يجب أن تقوم بها القوات الامنية وواضح ان هذا كله وغيره يتطلب من القوى الأمنية التحلي باليقظة العالية، والمراجعة المستمرة لخططها الأمنية، والارتقاء بمنظوماتها وقدراتها الاستخبارية، وزيادة كفاءتها وإمكاناتها، وتحديث تجهيزاتها، وتعزيز ضبطها ومهنيتها، إلى جانب محاسبة العناصر المسيئة والمقصرة. ولا بد من الاشارة هنا الى مسؤولية الكتل المتنفذة وما تسببه منابزاتها وخطابها المهيج من توترات واجواء ارتياب تستغلها قوى الارهاب.

ويتوجب ايضا التشديد على وضع حد لانتشار السلاح، وتفعيل شعار حصر السلاح بيد الدولة، ووضع أشكال التعاون والتنسيق بين الأجهزة الأمنية والمواطنين موضع التطبيق. كما بات ضروريا فرض هيبة الدولة ومؤسساتها على الجميع دون استثناء، وهو ما يعززه كثيرا وضع حد لنشاط أي جهة او تنظيم مسلح خارج عن القانون.

وفي اثناء ذلك غدا الاصلاح والتغيير مطلبا جماهيرا واسعا، بدافع الحرص على انقاذ البلاد ووضع العملية السياسية على السكة السليمة المفضية الى اقامة الدولة المدنية الديمقراطية. الدولة التي تلح ظروف بلدنا الملموسة، وحالة التعددية المتنوعة التي يتسم بها، على قيامها كضرورة لا غنى عنها لضمان وحدته الوطنية، وتماسك نسيجه الاجتماعي، وصيانة استقلاله وسيادته، وتأمين تطوره الحر المستقل، وتحقيق التنمية المتوازنة المستدامة، وتوفير العيش الكريم والحريات العامة والخاصة لأبنائه. وهذا كله يتطلب حشد طيف وطني واسع من القوى الداعمة للإصلاح والتغيير.

تأتي هذا الاوضاع في البصرة ومنها الخلل الامني المنفلت، وحكومة البصرة عاجزة عن فعل أي تدبير تجاه اهالي البصرة بل اكتفوا بالصراع المحتدم على السلطة .. وتجلى ذلك بصراعهم على منصب المحافظ بعد فوز محافظها بعضوية مجلس النواب والصراع حول رئاسة المجلس.. ناهيك عن عدم اكتراثهم بمطالب المحتجين في البصرة منذ انطلاقه التظاهرات في نهاية تموز ٢٠١٥ حتى الآن .

وفي سياق حديثنا عن القضاء على اشكال الجريمة المنظمة التي طالت الناشطين وتهدد ارواح الاخرين يجب التصدي الفعال لآفة الفساد

ويصعب الحديث اليوم عن الحاق الهزيمة بالإرهاب والارهابين، بل كذلك عن الاعمار والتنمية الاقتصادية الناجحين، من دون مواجهة حقيقية حازمة مع ظاهرة الفساد المتفشية في البلاد بدرجة مخيفة.

وتعني هذه المواجهة الاقدام على معالجة جذرية شاملة، وتجنب اسلوب الهبـّات الوقتية والاجراءات المتفرقة هنا وهناك، ارتباطا بهذا الموقف او ذاك الاصطفاف السياسيين. وتعني ايضا اعتماد موقف سياسي حازم من طرف الجميع، وعلى مختلف المستويات، واستبعاد الانتقائية والكيدية والتسقيط السياسي عند التعامل مع هذا الملف. كما تتطلب تفعيل دور القضاء وضمان تمتعه بكامل صلاحياته في التصدي للفساد والمفسدين، بعيدا عن اي تدخل من جانب السلطات التنفيذية والتشريعية. اضافة الى تهيئة الاجواء والفرص لقيام الاجهزة الرقابية بوظيفتها على نحو حيادي ومهني.

وطبيعي ان رؤوس الفساد يبذلون كل جهد للإفلات من قبضة العدالة. لكن المؤسف والخطير، انهم يجدون في اجهزة الدولة من يتواطأ معهم بل ويسهل امرهم .

ويبقى التصدي الناجع لأخطبوط الفساد بعيد المنال، ما لم تسهم فيه اجهزة الدولة ومؤسساتها جميعا، التشريعية والتنفيذية والقضائية، ومعها الاحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني ووسائل الاعلام وغيرها. كما ان بوسع الجماهير النهوض بدور عظيم الاهمية، عبر تفعيل الرقابة الشعبية.