يرى العديد من رجال الفكر والسياسة والمجتمع، ان الدكتاتورية كانت عبارة عن حكم عصابة سيطرت على آلة الدولة الريعية النفطية الثريّة التي كانت قائمة اصلاً منذ العهد الملكي على اسس مدنية، عصابة حكمت البلاد بالأمكانات الهائلة التي توفّرت لها باغتصابها لثرواتها الفلكية، بمنطقها  الدموي واشاعت الجريمة، ومنطق الأستحواذ على البلاد كضيعة تعود لها، ومدّ الجذور عميقاً فيها لتثبيت منطقها ذاك، ثم مدّه في عموم المنطقة التي تحتوي على اكبر محطة في العالم للنفط والطاقة، وبالتالي للصناعة وسوق المال.

لقد غيّر منطق حكم العصابات الطويل ذلك، وعي ومنطق المجتمع على سكّته .  . باعتماده العنف والتفنن في الرعب والخوف سواءً في تحطيم المعارضين، او ترويض المجتمع، باسلوب البحث عن عقوبات مخيفة غير مألوفة (اقوى من الموت) لأن الموت كان معروفاً بحسابها .  .  وباتباع كل سبل الأغراء والرعب لتخويف و محاولة جعل المعارضين يتساقطون (من ذاتهم)(1)، ومن الخوف على افراد عوائلهم واحبتهم، بعد السعي لتدمير الذات البشرية من خلال التهديد المتواصل او المباشرة المتواصلة بتدمير الأحبة من الأبن والبنت والزوجة والوالدين والأشقاء .  .

 الى ان صار الخوف والرعب ليس من الموت ولكن من التعذيب، حتى صارالموت رحمة ! ثم صار الخوف ليس من الموت الفردي ولكن من الموت الجماعي .  .  بعد ان عُزل المجتمع عن العالم وبعد ان تحكّمت به اجهزة اعلام الدكتاتورية التي تسلّطت وحدها عليه، وشوّهت نمط تفكيره ومنطقه .  .  باستمرارها لعقود طويلة، والى ان وصل الرعب حدوداً هائلة من اللامعقول، وصار صفة اخذت تلازم الفرد والمجتمع بل وتتحكّم بالسلوك فيه، وصار الأنسان لايهتم بمعرفة الحقيقة لأنها قد تجره الى مهالك، بعد ان صارت قضيّته الأساسية ان يحيا ويزوغ من مواجهة المشاكل حتى اليومية منها، كي يستطيع مواصلة الحياة .  . 

وبتوالي النكبات بعد سقوط الدكتاتورية و توالي الأجيال الجديدة، تثلّم مفهوم (حب الوطن) الكلاسيكي ان صحّ التعبير، بعد ان صار الهمّ هو البقاء على الحياة بامان بأي شكل، ثم بأمان في أيّ وطن .  .  و بعد ان صار الأمان حلما صعب المنال، اثر تحطّم دفاعات النفس البشرية و مشاريعها وطموحاتها لخير الوطن، واستعدادها للتضحية في سبيل شرف الكلمة وفي سبيل الوطن !

                 الأمر الذي اخذ يلقي اسئلة عن ماهية الواقع، وتفضيل الأنقطاع عنه والهروب منه، بحثاً عن مفهوم مشوّه للأمان، ادىّ الى غياب روح التحدي كفئات ومجاميع سواءً لمواجهة اوالأستعداد لبناء حياة افضل، لغياب المحفزات من جهة ولغياب جدوى التحديات، وادّى الى تعزز روح تحدي الفرد كفرد  و ليس كجماعة(2)، لمواجهة اعباء حياته اليومية الشاقة، و ادى الى فقدانه الثقة بجدوى الفكر، وشيوع اليأس من المفاهيم التي لم تعد تشفي غليلاً او تساعد على حلّ لمشكلة .  .  وهو يراقب بألم وحسرة تزايد اثراء وتسلّط افراد ساقطين وتافهين بلا حدود عليه، بل وصاروا يتحكّمون بشؤون حتى ملاذه وبيته.

                 الأمر الذي وصفه البعض بالضياع الكامل، الذي ادّى الى استمرار العودة الى الأصول الأولى التي هدفت لها الدكتاتورية وعبّدت اليها الطرق .  . حين كانت تخاطب وتدعو المواطنين الى ان ( الكل مسلمون، راضون بما قدّر الله لهم، وانّا لله وانّا اليه راجعون) سواء سنّة كانوا او بمغازلة ومنافقة الشيعة حينها، ونحو تشجيع المذهب الوهابي، وبالسماح لتداول كتاب واحد هو القرآن .  .  على ارضية صارت فيها الحياة عبارة عن الآخرة ! لتفشي الأحزان ولكثرة العزاءات بسبب توالي الحروب المدمّرة، ولإستمرار الجور واستمرار مواجهة المعارضة بالتعذيب وان رأفت فبالموت !! و هو مايستمر على ايدي الميليشيات المسلحة ايرانية كانت ام عراقية تابعة.

في زمن تعددت فيه اسباب انفجارات النفس البشرية، سواء كانت من السوق الى الحروب والموت، في زمان العيش تحت جزمة الدكتاتورية بالموت والرعب والتعذيب، حين تضمّنت حتى التساؤلات والحيرة والنقمة على العالم الساكت او المتواطئ، والرب الذي سمح بما كان يجرى، اضافة الى التعامل بخوف واضطراب مع معارضة الدكتاتورية، بين تأييدها والخوف من بطش الدكتاتورية الوحشي بسبب تأييدها من جهة، اوبسبب عدم وحدة تلك المعارضة الذي استمر طويلاً و لايزال، من جهة أخرى .

من جانب آخر، فقد ادىّ التعتيم على ما كان يجري في اجزاء البلاد، وتعتيم وحصر اخبار الفضائع التي كانت تُرتكب بحق كل جزء قومي او ديني او مذهبي، باجراء عقوبات كانت تصل بسهولة  حد الإعدام لمن كان ينقل اخباراً عن اعتقال او اضطهاد او انتهاك جرى في منطقة ما، الى منطقة أخرى، ادىّ بتراكم تلك المظالم وتفاقمها والتعتيم عليها وعدم معرفة المناطق الأخرى بها  .  .  الى شعور كل منطقة وطرف او طيف عراقي بعد سقوط الدكتاتورية، بانه الأكثر تضحية والأكثر تضرراً لوحده .  .

وبالتالي فانه الأكثر جدارة بحصة اكبر من التعويض والحكم، او ان يحصل لوحده على الكعكة باجمعها. الأمر الذي رغم تجاوز قوى معارضة صدام له واتفاقها على بديل الدكتاتورية الفدرالي الديمقراطي الموحد، استمرت و تزايدت حالات توظيف ذلك الشعور لمصالح انانية فردية ضيّقة، تركت و تترك اضراراً بالغة بالبلاد، بسبب  عدمِ تداركه السريع و للبوسه لباس المحاصصة سيئة الذكر بعدئذ.

في ظرف ادى الأرهاب فيه والأستخبار والكذب والتوريط والضغط المعرفي الهائل، الى خلق حالة من انغلاق الفرد على الأهل والعائلة وبالتالي على النفس، وشكّل تربة خصبة لأنتشار انواع الأفكار التي عملت حينها الدكتاتورية على امتطائها، بل والدعوة اليها، كالفكر السلفي التكفيري الذي يكّفر ما لايعرفه المرء فيرفضه خوفا وجهلا اوخوفا من مغامرة لايعرفها، بعد انغلاقه على ذاته وعودته بسليقة الأنغلاق الى الأفكار الأيمانية المقدسة بلبوس جديد. 

من ناحية اخرى، وفي الوقت الذي فرحت اوساط كبيرة فيه بسقوط الدكتاتورية، ولم تدافع عن الدكتاتور الذي فرّ، انشغلت اوساط اخرى بالنهب وبحمل ما حلمت به يوماً وسط لاأبالية اعداد كبيرة مما كان يجري .  . وقلق وحيرة اعداد اخرى من الوضع الجديد الذي تكوّن بعد ان كانوا يتوقّعون انه سيحمل اعلان حكومة جديدة تفتح ابواب التقدم و الرخاء، بعد سقوط الحكم البائد .  .  الأمر الذي ازداد بحل الدولة والجيش والشرطة، و اعتماد الميليشيات الطائفية المسلحة .

ويرى عديدون ان اسقاط الدكتاتورية بحرب خارجية و تأخر اعلان حكومة جديدة سريعاً، بسبب عدم توصّل قوى معارضة صدام الى تحديدها بعد سقوطه وتحديد برنامج موحّد ملموس لها ورفض العراقيين للاحتلال، ضمن مواقف و تصوّرات عموم المنطقة وانطباعاتها عن الدور الأميركي، اضافة الى المواقف و الاعمال المتنوعة لدول الجوار المنطلقة من مصالحها الذاتية هي، دون الأهتمام بمصير الشعب العراقي، بتجربة وتقدير اوسع الأوساط العراقية .  .

و رغم حصول بعض تعاون للقوى السياسية الفاعلة في البلاد على اساس النضال السياسي والعملية السياسية لتأسيس دولة المؤسسات و انهاء حالة الأحتلال .  .  كانت اكثر الفئات الثرية التي كوّنت ثروات فلكية بتقرّبها و(تزاوجها) مع عائلة الدكتاتور، وبنهبها الطفيلي في ظلّ حمايته، قد هربت من البلاد بعد انهماكها بعملية تهريب وتبييض اموالها منذ دخول الأزمة العراقية مرحلة كانت تنذر بقرب اندلاع الحرب وسقوط الدكتاتورية، واخذت تسعى من الخارج لحماية شبكاتها ومشاريعها السوداء واستعادتها، لتتزاوج مع الفئات الطفيلية التحاصصية الجديدة و بوجوه جديدة على اساس (شيّلني و اشيّلك) .  .  .  على ارضية من جهل فئات حاكمة و قِصَرِها وعدم معرفتها التفاصيل، وعلى اساس (التفاعل) مع فئات مجرمة محترفة رأت فرصاً ذهبية لها في المضاربة والقيام بسرقات اكبر، اضافة الى اندلاع الأنتقامات الفردية الشخصية المستنجدة بالعشائرية والمذهبية .

في ظرف لعب فيه تخلخل وتهاوي حدود البلاد الحديدية التي اقامتها الدكتاتورية .  . التخلخل الذي استمر طويلاً لدواعٍ عدم التهيؤ الجيد او لدواعٍ لاتزال غير معروفة، لعب دوراً كبيراً في  تسلل جماعات واموال وسلاح، شجّع الهاربين على النشاط ضد الجهود المبذولة لبناء النظام الجديد، وجنّد آلافاً كبيرة من العاطلين والهائمين بذلك الأتجاه. اضافة الى تطلع ثم محاولات فئات استمرّت بالتدفق من دول الجوار والدول الأقليمية للنهب، من نهب الآليات والمعدات العسكرية والسلاح المتطور المتروك الى النهب من خلال العقود الجديدة للدولة الجديدة، و الى تهريب النفط  وكنوز ونفائس متنوعة، بتعامل بين اطراف تحاصصية ذاتها او بينها و بين اطراف معادية من داعش و القاعدة الى اطراف حاكمة من دول الجوار.

في وقت تنشط فيه انواع العصابات الدولية، من التي احتضنها وحماها واجزل لها او وعدها صدام الى عصابات جديدة اوسع، منها داعش بعد سقوطه، للقيام بانواع السرقات وتصريفها اضافة الى انواع المضاربات التي شملت اضافة الى ما ذكر، قطع غيار ومفاصل هامة في برامج صناعة اسلحة الدمار الشامل ومن مواد مشعة ـ او بعثرتها غير آبهين بمخاطرها على البشر والحياة ـ، وكلّ ماخفّ حمله وغلى ثمنه حتى كوّنت و قوّت رأسمالها وامكاناتها على المواصلة والتصعيد، لتحقيق ارباح اكبر، و خلف واجهة صراعات اقليمية و دولية. (يتبع)

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  1. العبارات بين اقواس هي عبارات اهداف الدولة الدكتاتورية في زمن صدام، المثبّتة في وثائقها.
  2. الذي تطوّر لاحقاً الى انفجارات جماعية بتلاقي معاناة الافراد الهائلة.

(*) للمزيد من التفاصيل راجع بحث الكاتب المعنون ( في اسباب التشوهات الأجتماعية في العراق وسبل الأصلاح ! ) المنشور بحلقاته الخمس في مجلة " رؤية " الغراء الصادرة عن دار حمدي في السليمانية عام 2005   و الموجودة في ارشيف الكاتب في موقع " الحوار المتمدن "

 

 

 

عرض مقالات: