فرطت الحكومات العراقية المتعاقبة – طيلة عمر الدولة العراقية – دون التوصل الى معاهدة ناجعة تضمن حقوق العراق في دجلة والفرات رغم العلاقات بين البلدين تتسم بالطابع الايجابي على الغالب , وساد التراخي التنظيمي بين البلدين الا ما جاء استثناء , ومن ذلك الاستثناء : معاهدة الصداقة وحسن الجوار المبرمة بين البلدين الملحق بها ستة بروتوكالات الاول منها يتعلق بتنظيم مياه دجلة والفرات الموقع عليها من الجانب العراق نوري السعيد وعن الجانب الايراني فريدون اركن وذلك بتاريخ بتاريخ 29 / 3 / 1946 , والمنشورة في الوقائع العراقية العدد 2482 في 17 / 6 / 1947 .
ان المباديء التي جاء بها البروتوكول هو مشاركة العراق في لجنة فنية مشتركة مع الجانب التركي لغرض اختيار المواقع التي تقترحها تركيا لاقامة منشآت على اراضيها , اذ الواجب ارسال وفد فني عراقي الى تركيا للمشاركة في تلك اللجنة للقيام بالمسوحات وجمع المدلولات المائية والجيولوجية وغيرها من الامور الاخرى لغرض اختيار مواقع السدود ووضع التصاميم لها وذلك تبعا للحاجة على نهري دجلة والفرات وروافدهما وتقوم تركيا بتنظم الخرائط المساحية مع تعهد الجانب التركي بتقديم كافة المعلومات اللازمة الى اللجنة الفنية تلك .
المبدأ الثاني هو ما نصت عليه المادة الرابعة من البروتوكول , هو الموافقة المبدئية التركية على مقترحات اللجنة الفنية المشتركة حول انشاء الاعمال موضوع المقترحات , وتعقد الاتفاقيات المطلوبة حول الموقع والكلفة والتشغيل والصيانة , فضلا عن الاستخدامات المائية وتوليد الطاقة الكهربائية .
اما المبدأ الثالث الوارد في المادة الخامسة من البروتوكول فهو الزام تركيا على اطلاع العراق على كافة المشاريع الوقاية التي تقرر انشاءها على النهرين وروافدهما وذلك لغرض جعل تلك تلك الاعمال تخدم – قدر الامكان – مصلحة العراق كما تخدم مصلحة تركيا .
ومن المباديء تلك يتضح ان قيام تركيا بانشاء السدود والخزانات على نهري دجلة والفرات وفروعهما في اراضيها لا يتم الا على وفق الدراسة الفنية التي يقدمها الخبراء العراقيين والاتراك , وان اختيار أي موقع لتلك النشاطات لا يتم الا بموافقة العراق .
ومعلوم ان هذه الاتفاقية تستند الى قرار جمعية القانون الدولي المرقم 47 , المتضمن : ( لا يجوز استخدام مبدأ السيادة على النهر الدولي للتأثير على حقوق الدولة الاخرى اسفل النهر , وتعتبر الدولة مسؤولة عن الضرر الذي يلحق بحقوق الدولة الاخرى .
اتبعت تركيا احكام الاتفاقية هذه اثناء عملية ملء خزان كيبان وتشاورت مع العراق بغية تامين حاجة العراق من المياه على ان يصاحب ملء خزان كيبان ملء خزان الحبانية خلال تلك الفترة ووقعت مع العراق بوتوكول للتعاون الاقتصادي الفني بهذا الخصوص مؤرخ في بتاريخ 17 / 1 / 1970 .
الا ان الامر اختلف تماما عند مليء خزان اتاتورك على الفرات , اذ وجهت تركيا اخطارا الى كل من سوريا والعراق تبلغهم فيه بخفض تدفق مياه الفرات من 500 متر مكعب في الثانية الى 120 متر مكعب في الثانية وابتداء من 13 / 1 / 1990 , من دون الاعتداد بالمهلة التي يتطلبها الاخطار والاثار المترتبة عليها وفقاا لاحكام القانون الدولي , او اعمال الاحكام الواردة في البروتوكول اعلاه , ويبدو ان واقعة كهذه سوف تتكرر عند المباشرة بمليء سد اليسو الواقع على نهر دجلة المفترض بدء العمل فيه في آذار / 2018 .
الموقف التركي متصلبا وبات اكثر تصلب عند رفضها الاتفاقية الدولية للانهار غير الملاحية 1997 . اذ انها متمسكة بنظرية (هارمون) التي عفى عليها الزمن واصبحت مجرد ارشيف قديم في محفوظات القانون الدولي ليس لها محلا للتطبيق في اية دولة وترد احكامها احيانا عند الدراسات الخاصة بالانهار الدولية باعتبارها جزء من الارث الانساني في تنظيم المياه , وهذه النظرية هي التي دفعت تركيا الى تبني مصطلح ( الانهار العابرة للحدود الدولية ) خلافا لما استقرت عليه التشريعات الدولية وفقه القانون الدولي واحكام محكمة العدل الدولية التي تستعمل مصطلح ( النهر الدولي ) الذي لاتعتد به تركيا .
نظرية (هارمون) وتسمى ايضا التقليدية المتشددة تمتد بجذورها الى بدايات القرن التاسع عشر وتقوم على مفهوم واسع للسيادة الاقليمية المتضمن السيادة بشكل مطلق على اراضيها بما في ذلك الانهار وبذلك ترفض أي قيد تقتضيه دولة المصب التي لا يمكنها ان تفرض أي شرط على دولة المنبع , هذا الامر الذي دفع تركيا الى استعمال مصطلح ( النهر العابر للحدود الدولية ) وبموجبه اجتهدت ان لها السيادة الكاملة على النهر ما دامت دولة المنبع فالنهر نهرها , ولا يمكن بالنسبة لها اعتبار سوريا والعراق دول متشاطئة , لان التشاطيء بالنسبة لتركيا – مختلف ومخالف لاحكام القانون الدولي – تقول ان دجلة والفرات لا يصح اطلاق التشاطيء عليهما , ولكنهما عندما يلتقيا في شط العرب , فشط العرب وحده نهر متشاطيء لانه يرسم الحدود بين العراق وايران . وفهم التشاطيء التركي هذا تختص به تركيا وحدها خلافا لما استقر عليه الفقةوالقانون الدولي .
هذا الموقف التركي من النهر الدولي , اصبح حالة في الخلف بعد اعتماد الاتفاقية الدولية للمجاري المائية غير الملاحية 1997 التي عرفت المجرى المائي بأنه : ( شبكة المياه السطحية والجوفية التي تشكل بحكم علاقتها الطبيعية بعضها ببعض , كلا واحدا وتتدفق صوب نقطة وصول مشتركة ) , اما المجرى الدولي المائي فهو : ( أي مجرى مائي تقع اجزاؤه في دول مختلفة ) , وتركيا تحاول جاهدة الى اثبات المختلف بين النهر الدولي من جهة والنهر العابر للحدود الدولية , في حين ان المصطلحين هما مصطلح واحد من حيث االنتيجة حسب تعريف الاتفاقية اعلاه .
والمباديء الناظمة للنهر الدولي بموجب اتفاقية 1997 وكيفية التعامل مع المياه المشتركة وردت بالشكل الاتي : 1 - التقسيم العادل والمنصف للموارد المائية المشتركة . 2 - التعاون بين دول المجرى المائي لحماية الموارد المائية المشتركة وترشيدها . 3 - الالتزام بعدم احداث ضرر بالغيرعند ممارسة الدولة الحوضية لحقوقها على الجزء المائي في اقليمها . 4 - التشاور والتفاوض عند الشروع باعمال هندسية تتعلق بمنظومات الري .
عليه فالموقف التركي المتصلب من موضوع النهر الدولي ( المجرى المائي الدولي ) يتطلب المزيد من الجهد والاستعداد من قيل جهات مهنية محترفة واشخاص ترتفع لديهم المواطنة الى اعلى درجاتها ومتحصنين بمعرفة مهنية وحرفية عالية للبدء بمفاوضات مع الجانب التركي تبدأ بحدها الادنى المؤدي الى تفعيل البروتوكول الاول الملحق باتفاقية حسن الجوار ووضعه موضع التنفيذ بغية الوصول الى المرحلة التالية لغرض تطبيق احكام الاتفاقية الدولية للمجاري المائية الدولية غير الملاحية المنضم اليها العراق في 9 / 7 / 2001 والمعتمدة نصوصها من قبل محكمة العدل الدولية التابعة للامم المتحدة

عرض مقالات: