فرحان قاسم
مقدمة
لم تعد النتائج التي حققتها الراسمالية العالمية منذ عام (1492 م) خافية، سواء التحولات الإيجابية الثورية الكبرى في تطوير قوى الإنتاج التي قادتها الطبقة البرجوازية الصاعدة من خلال الثورة الصناعية و الثورة العلمية التكنولوجية والثورة المعلوماتية، والتي لم تسبقها الى ذلك اية قوى اجتماعية أخرى منذ فجر التاريخ، او الاثار الكارثية التي تركتها الطبقة البرجوازية بعد تحولها الى طبقة مهيمنة على المجتمع البشري.
ما يهمنا في هذه المقالة أولا هو التسلسل التاريخي للاستراتيجيات التي استخدمتها الراسمالية العالمية سواء في عهد هيمنة بريطانيا خلال القرون الثلاثة التي سبقت القرن العشرين او عهد هيمنة أمريكا خلال القرنين العشرين والحادي والعشرين. وثانيا الأساليب التي استخدمتها أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية لاخضاع العالم، وخصوصا بلدان الأطراف لعجلاتها المدمرة.
من المثير حقا ان نقد الراسمالية لم يعد حكرا على المفكرين الشيوعيين واليساريين وانما اتسع ليشمل مفكرين من الوسط الراسمالي نفسه ومن الأصوليين الإسلاميين والمسيحيين وغيرهم على الرغم من اختلاف الدوافع والاهداف وراء نقدهم ذاك. وتعكس هذه اللوحة الفكرية حجم الاثار المدمرة التي تركتها الراسمالية العالمية على اللوحة الاجتماعية في عالمنا المعاصر التي أدت الى اتساع جبهة الداعين الى تجاوز الراسمالية. ومن الأمثلة البارزة على هذا التنوع في نقد الراسمالية ما طرحه المفكر اليساري الأمريكي (نعوم تشومسكي) في الكثير من كتاباته وخصوصا"500 سنة الغزو مستمر" و"ماذا يريد العم توم"، وما طرحه خبير الاقتصاد الامريكي (جون بيركنز) في كتابه "الاغتيال الاقتصادي للأمم".

مشهد النظام الدولي
ارست معاهدة (وستفاليا 1648) نظاما دوليا جديدا يعتمد مبدا "المصلحة الوطنية" المستند الى مفهوم " دولة الامة" الذي أصبحت فيه البرجوازية طبقة مهيمنة. ثم شهد القرن الثامن عشر مفهوم "توازن القوى" الذي طبع الدبلوماسية الاوربية الى بداية القرن العشرين تحت خيمة الهيمنة البريطانية. وطيلة تلك الفترة كانت الولايات المتحدة الامريكية تعتمد "العزلة" و"عدم التدخل" أساسا لسياستها الخارجية. لكن الفكر الأمريكي بعد الحرب العالمية الأولى انتقل من العزلة وعدم التدخل الى مبدا "الالتزام" بنشر المبادئ و"القيم الامريكية" حول العالم من خلال نظام دولي قائم على "نشر الديمقراطية" و"التجارة الحرة" و"القانون الدولي" ومحاصرة الفكر الاشتراكي في ارجاء المعمورة بمختلف الوسائل والسبل. ولم يعد تقسيم العمل الدولي قائما على بلدان راسمالية صناعية مصدرة للمواد المصنعة ، وبلدان اطراف مصدرة للمواد الأولية والزراعية فقط وانما تحولت تلك البلدان الى مستقبلة للصناعات الملوثة للبيئة والتي تستقطب عمالة رخيصة.

السياسة الداخلية والخارجية الامريكية

لغرض تهيئة البيئة الاجتماعية الامريكية لاستيعاب الدور المناط بها كقوة راسمالية قائدة تتولى اعمام نمط الإنتاج الراسمالي في كل العالم، عملت الماكنة الأيديولوجية الامريكية على خلق الشخصية الامريكية ذات "البعد الواحد" حيث يتم استلاب الانسان في مجتمع التقنية ليس عبر القمع البوليسي وانما من خلال وسائل الهيمنة الإعلامية والثقافية المعاصرة لتزييف الوعي وإقرار الوضع القائم، وتجرد الانسان من معارضة ونفي النظام الراسمالي باعتباره المجتمع الأمثل الذي لا بديل له، وتجعل المواطن عاجزا عن التطلع الى تغيير الواقع الراهن. واطلق (ادورد برايز) مفهوم "هندسة الموافقة" على عمليات السيطرة على عقل المواطن الأمريكي بحيث يصورون للناس ان الحرب لم تنته بعد، وان أمريكا في حالة حرب دائمة من اجل "قيمها النبيلة". وبهذا تتحول التقنية والثورة المعلوماتية الى احدى وسائل الاستلاب والهيمنة وتزييف الوعي مثلما فعلت الولايات المتحدة الامريكية في تحويل الديمقراطية نفسها الى أداة لتكريس هيمنتها على المجتمع الراسمالي من جهة واداة لتبرير تدخلها السافر في شؤون بلدان الأطراف من جهة أخرى.
اعتمدت استراتيجية الولايات المتحدة الامريكية في السياسة الخارجية على مبدا (الاحتواء) خلال الحرب الباردة ثم مبدا (الردع) بعد سيطرة اللبرالية الجديدة، وكان (الاحتواء) وسيلة لبناء نظام دولي تسيطر عليه امريكا، يتم من خلاله فرض حكومات تؤدي مهمات محددة لصالح "امبراطورية الهيمنة" سواء كمراكز تصنيع تدر ارباحا هائلة بسبب رخص الايدي العاملة هناك، او كاسواق تصريف، او كمصدر للطاقة والمواد الخام. وكان (الردع) انعكاسا لعقيدة التفوق والهجوم الاستباقي لمواجهة "الدول المارقة" و"الارهاب" وتبلورت هذه السياسة بعد احداث الحادي عشر من سبتمبر، لتزيد من دور المؤسسة العسكرية في القرار السياسي الخارجي.
تسعى امريكا الى فتح اسواق بلدان الاطراف امام الشركات متعددة الجنسيات عبر منظومة لادارة تلك البلدان من قبل النخب السياسية ورجال الاعمال وقادة الراي، تحت اشراف المنظمات الدولية الثلاث؛ البنك الدولي وصندوق النقد الدوي ومنظمة التجارة العالمية، بشرط الدفاع عن اللبرالية بالمفهوم الامريكي و"حرية التجارة" والابتعاد عن السياسات المدافعة عن الاقتصاد الوطني. ووفقا لمنظورها قسمت تلك البلدان الى ثلاثة اقسام: القسم الاول لانتاج النفط ويضم بلدانا مثل فنزويلا والمكسيك والخليج. والقسم الثاني للعمالة الرخيصة وتجميع المنتجات ويضم بلدانا مثل امريكا الوسطى والكاريبي. والقسم الثالث للاستهلاك ويضم بلدانا مثل الصين والهند.
بعد الحرب العالمية الثانية رسمت امريكا مخططا للاستحواذ على العالم اطلقت عليه "المجال العظيم"، واستطاعت ان تحوز على 50في المائة من الثروات العالمية، وسيطرت على جانبي المحيط الهادئ والاطلسي، وغرب اوربا والشرق الاقصى والمستعمرات البريطانية السابقة ومصادر الطاقة في الشرق الاوسط. وتم اخضاع "المجال العظيم" لمتطلبات الاقتصاد الامريكي فاصبحت الدول الصناعية الكبرى ورشا عظيمة تحت اشراف امريكا ودول الاطراف، مصدرة للمواد الاولية واسواقا لمنتجات الدول الصناعية .
تحولت الادارة الامريكية الى منظومة متماسكة من اشخاص معدودين لهم اهداف مشتركة وينتقلون بين عضوية مجالس ادارة الشركات الضخمة والمناصب الحكومية، فليس غريبا ان يكون (روبرت ماكنمارا) رئيسا للبنك الدولي ورئيس شركة سيارات فورد وينتقل ليكون وزير دفاع. ويتكررهذا السيناريو لدى الكثيرين مثل (جورج بوش، وجورج شولتز وكاسبر ويننبرجر وريتشارد تشيني وريتشارد هيلمز) . ان ما تريده امريكا هو احتكار المستقبل لصالح امبراطورية الهيمنة الامريكية من خلال حرية دخول الاسواق واحتكار التكنولوجيا والاستثمار والانتاج العالمي.
ادركت امريكا ان مصدر الخطر الاكبر عليها يكمن في الحركات والافكار الاشتراكية والديمقراطية في بلدان الاطراف، لذلك سعت الى منع وصول الراديكاليين الى الحكم، ونصبت بدلهم حكومات تنفذ توصيات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة الدولية، كما حصل في ايران عام 1952، وغواتيمالا عام 1954، والدومنيكان والعراق عام 1963، وشيلي عام 1973 ونيكاراغوا وجرينادا وعدة دول اخرى.

مشهد بلدان الأطراف في ظل النظام الدولي المعاصر

ان تكريس اتباع بلدان الأطراف وتعميق هيمنة البلدان الراسمالية على تلك البلدان احد أهم خصائص النظام الدولي، واخذ هذا الاتباع مديات اكبر بعد الحرب العالمية الثانية. فلم يعد الاحتلال العسكري المباشر ضروريا، وكذلك اصبح اللجوء لاستخدام القوة العسكرية لفرض الهيمنة آخر الحلول، فقد برزت وسائل حديثة اثبتت نجاعتها وعمق تاثيرها كبديل للوسائل الكلاسيكية في الاتباع، واهمها سياسة "تحرير الاقتصاد" التي اخذ صندوق النقد الدولي والبنك الدولي يفرضانها على البلدان التابعة لتهيئة اقتصادها الوطني للاستثمارات الأجنبية وإعادة الهيكلة لصالح الخصخصة، ترافقها تخفيضات حادة في الخدمات الاجتماعية، وخلق لوحة اجتماعية جديدة لصالح راس المال على حساب العمل، وتحويل التنمية في تلك البلدان لخدمة الراسمالية العالمية من خلال زيادة الموارد المطلوبة للتصدير وخفض الموارد المستخدمة في الاستهلاك المحلي.
انتجت تلك السياسة واقعا ماساويا سيظل السمة الأبرز للبلدان التابعة لعقود قادمة، اذ وصلت القروض على هذه البلدان الى (2,5) ترليون دولار وان خدمة تلك القروض بلغت (37) مليار دولا سنويا في عام 2004، وهورقم يفوق ما تنفقه كل الدول التابعة على الصحة والتعليم، ويمثل ( 20 ) ضعفا لما تقدمه الدول المتقدمة سنويا من مساعدات خارجية. وارتفعت نسبة دخل خمس سكان العالم في البلدان الغنية الى دخل خمس سكان البلدان الفقيرة من (30:1) عام 1960 الى (1: 74) عام 1995 .

القرصنة أداة فعالة للهيمنة

بعد الحرب العالمية الثانية لجأت الإدارة الامريكية الى تشكيل فرق مختلفة من الخبراء الاختصاصيين من فروع علمية مختلفة اطلقت عليهم "القراصنة"، وهم خبراء محترفون ذوو أجور مرتفعة مهمتهم ان يسلبوا ملايين الدولارات بالغش والخداع من دول عديدة في سائر انحاء العالم. كان ( جون بيركنز ) خبير الكهرباء احد هؤلاء القراصنة، وقام بعد سنين طويلة من خدمته ضمن هذه الفرق، بفضح كافة الأساليب التي كانوا يستخدمونها والاهداف وراء الجهود المضنية التي بذلوها في مختلف بلدان الأطراف، وعرض اللوحة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي نتجت عن أعمالهم. ويمكن ايجاز المهمات التي تصدى لها هؤلاء الخبراء بما يأتي:
1-
اعتماد لغة خاصة تتضمن مفاهيم متعددة لتغليف ستراتيجيتهم في النهب الاقتصادي مثل مفهوم (الحكم الرشيد) و(تحرير التجارة) و(حقوق المستهلك) وغيرها كثير من المفاهيم المضللة بحيث لا تصبح السياسات صحيحة الا من خلال منظور الشركات الكبرى.
2-
اعداد الدراسات التي تستند عليها المنظمات الدولية لتقديم قروض لدول الاطراف بغرض تطوير البنية الأساسية وبناء محطات توليد الطاقة والطرق والمدن الصناعية بشرط قيام المكاتب الهندسية وشركات المقاولات الامريكية بتنفيذ هذه المشروعات. والنتيجة الطبيعية لهذه المهمة هي سحب مبالغ القروض المقدمة لبلدان الأطراف من المصارف الامريكية لتعود من جديد الى نفس المصارف عبر الشركات الامريكية المنفذة للمشاريع.
3-
استخدام المنظمات المالية الدولية لاخضاع الدول النامية لهيمنة النخبة الامريكية التي تدير الحكومات والشركات والبنوك لغرض بناء امبراطورية عالمية تحت سطوة الولايات المتحدة الامريكية.
4-
اصطناع التقارير المالية وتزوير الانتخابات والرشوة والابتزاز والجنس والقتل. وهذه أساليب قديمة استخدمتها الراسمالية في فرض سيطرتها على بلدان عديدة منذ بداية الاستعمار، لكنها اخذت ابعادا جديدة في عهد العولمة.
5-
ان مهمة القرصان هي ان يتنبأ بالمستقبل، فتوقعاته هي التي تقرر حجم الأنظمة التي سيصممونها وحجم القروض، فهم مفتاح الحل.
6-
ان الهدف الأول لعمل القراصنة هو اختلاق مبررات لاقناع بلدان الأطراف باخذ قروض دولية كبيرة. والهدف الثاني وهو الأهم العمل على افلاس تلك البلدان المقترضة بعد تسديدها ديونها للشركات بحيث تبقى مدينة لدائنيها الى الابد، وتصبح أهدافا سهلة لفرض الشروط عند الحاجة الى انشاء قواعد عسكرية على أراضيها او اتخاذها منفذا للموارد الطبيعية او الحاجة الى صوتها في الأمم المتحدة، وفرض الخصخصة عليها في قطاعات التعليم والصحة وخدمات الماء والكهرباء، وإلغاء كافة اشكال الدعم، وتعطيل جميع القيود على النشاط التجاري، وفتح المجال امام جميع أنواع الاستثمارات الأجنبية وعرقلة الإنتاج الوطني الزراعي والصناعي غير المرتبط بمصالح الراسمال العالمي.

ضحايا امبراطورية الهيمنة : العراق انموذجا

دفعت الكثير من بلدان الأطراف اثمانا غالية جراء سياسة الاخضاع والاتباع عبر المديونية ، وخلفت ملايين القتلى والجياع والعاطلين والمهمشين إضافة الى انهيار كبير في النظومات القيمية لتلك المجتمعات، وخرابا كبيرا في اقتصادياتها ومواردها الطبيعية والبشرية. وشمل هذا السيناريو الكثير من البلدان مثل الاكوادور، فنزويلا، اندنوسيا، غواتيمالا،ايران، كولومبيا وغيرها.
ان ازمة المديونية في العراق ليست حديثة العهد وانما ارتبطت بالسياسات الحمقاء الخاطئة للنظام الدكتاتوري السابق، اذ تقدر بـ (450) مليار دولار بين قروض خارجية وتعويضات حرب. وبعد الاحتلال الأمريكي فرضت أمريكا على العراق قيودا اقتصادية وسياسية قاسية كشرط لتخفيف تلك المديونية عليه، ومن هذه الشروط اخضاع سياسته النقدية والمالية والاقتصادية لسياسات المنظمات الدولية الاقتصادية، واخذت هذه الازمة ابعادا اكبر بعد تنفيذ مشروع بريمر الاقتصادي الذي أدى الى انهيار القطاعات الإنتاجية العراقية الصناعية والزراعية والحرفية. وزاد الطين بلة بعد اعتماد المحاصصة أساسا للنظام السياسي في العراق، اذ عم الفساد المالي والإداري وتحولت الازمة الى ازمة شاملة شملت مفاصل الحياة جميعها.
لعب المستشارون والخبراء الامريكان " القراصنة " دورا كبيرا في رسم سياسات العراق بعد 2003، وتوزعوا على كافة الوزارات وقدموا استشاراتهم ونصائحهم التي تحولت الى أوامر وخطط على كافة المستويات. وكانت نتائج خططهم ترسيخ تبعية العراق السياسية والاقتصادية من خلال تكريس سمة الاقتصاد العراقي كاقتصاد ريعي توزيعي خدمي واحادي الجانب، رغم توفر العائدات النفطية الهائلة التي تمكنه من بناء اقتصاد متين يعتمد التنوع في مصادره، وبدلا من ذلك وجهوا العراق الى الاستيراد الاستهلاكي والترفي، وادخلوه في نفق الانفاق العسكري الهائل والمشروعات الوهمية، وتحول الفساد المالي الى اخطبوط مافيوي ينتشر افقيا وعموديا أدى الى هدر جميع العائدات النفطية الضخمة، ووضعوا العراق في زاوية ضيقة اضطرته الى القبول بشرط المديونيات القاسية التي هو في غنى عنها أصلا.
انفقت أمريكا اكثر من ( 87 ) مليار دولار في حربها لاحتلال العراق، وتقدر الأمم المتحدة انه بمثل هذا المبلغ الضخم يمكن توفير الماء الصالح للشرب والخدمات الصحية والتعليمية الكافية بنصف هذا المبلغ لكل انسان على وجه الأرض. والسر الوحيد الذي يكمن خلف انفاق مثل هذا المبلغ الضخم في العراق هو حرص أمريكا على إبقاء ثروة العراق النفطية الهائلة التي درت وستدر عليها أضعاف اضعاف هذا المبلغ، تحت هيمنة الشركات النفطية الامريكية، إضافة الى أسباب أخرى تتعلق بموقع العراق المهم وعلاقته بمشروعها الكبير في هذه منطقة الشرق الأوسط.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر
1-
ماذا يقول العم توم نعوم تشومسكي
2- 500
سنة الغزو مستمر نعوم تشومسكي
3-
الاغتيال الاقتصادي للأمم جون بركنز
4-
الدبلوماسية ج1 هنري كيسنجر
5-
صندوق النقد الدولي د. عودة الحمداني