ان السلطة السياسية في ظل الدولة الاستبدادية تحاول وباستمرار قهر واخضاع المثقف وتأطير الثقافة وفق عقيدتها السياسية والفكرية وانتاج نوع من الفكر الواحد والتصور الواحد وتعمل على تعمية الجماهير والاستفادة من الجهل الشعبي، وهذا شكل من اشكال الاستبداد السياسي الذي طبع التاريخ العربي والاسلامي منذ نشوء الامبراطوريات العربية، وقد تجلى ذلك بصورة سافرة وجلية بعد نشوء الدولة الوطنية في اعقاب الحرب العالمية الاولى 1914- 1918 تحت الرعاية الاستعمارية وعلى مسار تاريخ المنطقة انتجت عقيدة القهر والارهاب والتخويف، ووقفت تاريخيا بالضد من اية ممارسة ثقافية واعية، وقد عمدت على وضع القيود والتابوهات ضد المجتمع والمثقف، مما ادى الى ظهور نوعين من المثقفين، مثقف تابع انتهازي انحاز الى السلطة السياسية وارتبط بها منظرا لسياستها ومبرراً لمشروعيتها في ممارسة العنف والقهر الاجتماعي والاستغلال الاقتصادي والتعسف السياسي في افقار الجماهير وتجهيلها.
اما النوع الثاني الذي نحن بصدده فهو المثقف المدرك لقضايا مجتمعه ويعمل من اجل التغيير والتطور الاجتماعي، المثقف العضوي بحسب المفكر الشيوعي غرامشي والذي تم تجديد مكانته ووظيفته داخل سيرورة تاريخية، بمعنى المثقف المنتج للمنظومة الفكرية المجسدة للواقع الاجتماعي والسياسي والهادفة الى تغييره والعمل على تطويره.
ان المثقف العضوي يكون انتماؤه الى تاريخه ومجتمعه وباستخدامه ادواته المعرفية النقدية يكون قادرا على الاطاحة بسلطة السياسي السلطوي، كون الاخير يستهدف اخراج المثقف من دائرة النشاط السياسي والاجتماعي لكونه يشكل خطرا على سلطته السياسية، بمعنى ان الصراع التاريخي بين المثقف والسياسي تعبير عن المضمون الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والفكري، وهو صراع بين ارادتين، ارادة السياسي الذي يحاول تأبيد الراهن، وارادة المثقف الذي ينشد التغيير بين سلطة الثقافة والمعرفة الانسانية وبين ارادة الطغيان والقهر والتعسف.
في الدول الراسخة ديمقراطياً، يبدو ان العلاقة بين المثقف والسياسي قد تم حسمها بشكلها التاريخي والمدني باعتبارهما مواطنان في ظل دولة متحضرة، دولة قيم مدنية عملت على انتاج شراكة حقيقية بين المثقف ورجل الدولة السياسي وادى ذلك الى ان تتحرر العلاقة بين المثقف والسياسي من علاقة التضاد والاختلاف الى علاقة التفاعل والحوار الخلاق.
اما في الدول الاستبدادية، فتتموضع العلاقة بين المثقف والسياسي ضمن نطاق الصراع المجتمعي، لكون السياسي يحاول الضغط على المثقف والزامه على التكيف مع المؤسسة السياسية من خلال فرض العقاب واستخدام العنف والقسر، الا ان ارادة المثقف بقوته المعرفية واصراره المبدئي وبايمانه التاريخي اقوى واقدر من ارادات التسلط والطغيان.
ان النهج السلطوي للسياسي يهدف وباستمرار الى تأطير الثقافة بما يتلاءم ورؤيته العقائدية تجاهها في محاولة منه لتلوين الثقافة والفكر والحياة بلون محدد وتصور واحد بغية قمع الفكر المختلف ومحاولة ابعاد المثقف النقدي باستخدام اساليب القمع والاضطهاد.
ان الصراع التاريخي في ظل انظمة سياسية كهذه يظل قائماً بين السياسي الذي يستهدف ايقاف عجلة الزمن وبين المثقف التنويري الذي يهدف الى انتاج بيئة سياسية واجتماعية متنورة وبالتالي خلق مجتمع له هويته الحضارية المؤثرة في عملية التقدم الاجتماعي والتطور السياسي والازدهار الاقتصادي والفكري، باعتبار ان الثقافة التقدمية هي الترسانة الاصيلة للوعي الاجتماعي وانها ليست تعبيرا عن الواقع الاجتماعي والسياسي فحسب، بل هي اداة فاعلة في عملية التغيير والتطوير الاجتماعي والسياسي بالكامل.في سبعينيات القرن المنصرم استخدمت السلطة الاستبدادية البعثية الاجراءات الاستثنائية ضد القوى الوطنية وفي طليعتهم الطبقة المثقفة، مما ادى الى افراغ البلاد من المبدعين واصبح الفن والادب اسير السلطة السياسية، وسيطر المثقف التابع الذي كان يروج لفكرة الاستبداد واشاعة التخلف وابراز دور (القائد الملهم) و (القائد الضرورة)، ونتيجة لذلك تراجع دور الادب وانحسر دور الفن وتوارى بعض من المثقفين عن المشهد الثقافي واصبحت مهمة الشعر التمجيد والمدح وتحول الى يافطات سياسية تتغنى بحب (القائد التاريخي)، فانحطت الثقافة وتراجع دور الفكر والابداع عموماً.
ان على السياسي في عراق ما بعد الحقبة الاستبدادية ان يستوعب الدرس التاريخي جيدا، وان يعمل على توطيد العلاقة مع المثقف بعيدا عن استخدام ادوات الترهيب والايتعاد عن ممارسة فرض الفكر الواحد والرؤية الواحدة للحياة والعمل على انجاز المهمات الوطنية وبناء الدولة المدنية ذات المؤسسات الديمقراطية واحترام الثقافة والمثقف والايمان بحقيقة التنوع التاريخي واحترام التعددية السياسية والفكرية والمذهبية.

عرض مقالات: