تحلُّ علينا هذه الأيام الذكرى الخامسة والستون لثورة (١٤) تموز المجيدة، الثورة التي أحدثت تغييرات عميقة في المجتمع العراقي، وحققت مكاسب وانجازات سياسية واقتصادية واجتماعية كبرى، ما زالت مضيئة إلى يومنا هذا في ذاكرة الشعب العراقي وكادحيه من العمال والفلاحين وسائر شغيلة اليد والفكر. فهي جاءت بعد رحيل نظام رجعي وتابع ذليل إلى الاستعمار البريطاني، الذي سام الشعب صنوف الاذلال والقمع وأدخله في نفق مظلم يسوده الفقر والجوع والمرض وكل ما من شأنه تكريس التخلف والتبعية.
لقد كانت ثورة ١٤ تموز ١٩٥٨ بحق ثورة شعبية اصيلة وليست انقلاباً عسكريا كما يحاجج البعض، والواهمون بأن نوري سعيد والحكم الملكي كانا يمكن أن يصنعا نظاماً ديمقراطياً في العراق.
ولأنها كذلك، فقد قوبلت الثورة بفرح وتأييد قلّ نظيرهما من قبل الشعب العراقي. وكانت الجماهير هي العنصر الاكثر تأثيراً وحسماً في نجاحها المذهل، وفي شلِّ تحركات القوى المعادية للثورة داخلياً واقليمياً وعالمياً.
إنّ عظمة الثورة كانت جلية منذ لحظاتها الأولى، لكن ينبغي ألا ننسى أنها قد حملت معها عوامل ضعفها الاساسية التي ستدفع بها لاحقاً إلى الانتكاسة وضياع الكثير من منجزاتها. وأول هذه العوامل ان الدكتاتورية والفردية كانت كامنة عند العديد من طاقم الحكم الجديد؛ فالذين وضعوا خطة الثورة ونفذوها وصاغوا بيانها الأول كانوا مجموعة صغيرة من الضباط الاحرار، انفردت بقيادة الحكم، وتحديد توجهاته وسياسته العامة، ولم يكن لديها برنامج معلن للشعب ونهج سياسي محدد.
إن افتقار الجمهورية الفتية إلى رقابة الشعب ومؤسسات ديمقراطية منتخبة، أوجد وضعاً مناسباً لطغيان النوازع الشخصية السلبية لعدد من الحكام الجدد، وإلى انفلات الصراع بينهم، والتعالي على الشعب وقواه الوطنية، التي نشب بينها صراع محتدم ألحق ضرراً بالغاً بمسيرة الثورة وبإمكانية تجذيرها.
ومنذ الأيام الاولى للثورة، بدأت النشاطات المعادية والمؤامرات ضدها من قبل المتضررين من إنجازاتها وخطواتها الاقتصادية والاجتماعية، وكان بضمن هؤلاء بعثيون وقوميون وبقاياها الموالين للنظام القديم، وبدعم مكشوف من الخارج، إقليميا ودوليا، وبمشاركة فاعلة من الدوائر الاستعمارية وخصوصا الامريكية والبريطانية. وقد تعمق هذا النهج المعادي لتطلعات الشعب العراقي، بالتزامن مع تراجع المنسوب الوطني والديمقراطي لقيادة الثورة وبروز النزعات الفردية والمعادية للديمقراطية لديها على نحو جلي.
وكما هو متوقع استغلت القوى المعادية للثورة المثالب ونقاط الضعف التي يعاني منها الحكم الوطني، واستطاعت في المطاف الاخير الاطاحة به في انقلاب ٨ شباط ١٩٦٣ الأسود، حيث ارتكبت مجزرة يندى لها جبين الانسانية بحق الشيوعيين والديمقراطيين والوطنيين وغالبية ابناء الشعب العراقي، وقامت بنسف كل الانجازات والايجابيات التي حققتها ثورة تموز، خدمةً لأسيادها واستجابة لحقدها الدفين في معاداة وكره كل ما هو تقدمي وديمقراطي.
كما فتحت هذه الثورة المضادة الطريق امام سلسلة طويلة من الانقلابات العسكرية الرجعية وصولاً إلى إقامة نظام دكتاتوري فاشٍ بقيادة صدام حسين، أتى على الاخضر واليابس، وأدخل البلاد في أتون حروب داخلية وخارجية كان ضحيتها الأساسية شعبنا العراقي، وجعل العراق من أكثر الدول فشلا في العالم.
ثم جاء الغزو العسكري والاحتلال الامريكي البغيض لبلدنا، ليفرض نظام المحاصصة الطائفية – الإثنية بالضد من ارادة شعبنا وتطلعاته إلى بديل وطني ديمقراطي وبناء دولة المواطنة والقانون والمؤسسات. ومهّد ذلك لهيمنة قوى الطائفية السياسية والفساد على السلطة واحتكارها، والتي استمرأت هذا النهج الفاشل وتشبثت به، وجرى تعزيز الدولة العميقة وعسكرة المجتمع والتفريط بالقرار الوطني المستقل، والإمعان في نهب ثروات الشعب والوطن، ولو كان ذلك على حساب جوع وشقاء ملايين العراقيين.
ولم يعد خافياً على احد ان الازمة العامة الشاملة التي يعاني منها عراقنا المبتلى بمن غادر الوطنية والانسانية، رغم الخيرات والثروات الطبيعية الهائلة التي يمتلكها، لا يمكن تفكيك مكوناتها، ووضع الحلول المناسبة لها على ايدي هؤلاء المتنفذين، ولا أمل في حصول معجزة، بل ان المعجزة المتبقية لإنهاء هذا الخراب والبؤس الشامل هي التي يصنعها وينفذها بنات وأبناء الشعب انفسهم، سواء بالتظاهرات والاعتصامات، واشكال الحراك الجماهيري الاخرى، ام بالضغوط السياسية والبرلمانية، وعبر التخلي عن حالة الانتظار السلبية، والشروع بالتحرك والعمل الجدّي، للمطالبة بالحقوق المشروعة لعموم العراقيين، مستلهمين تراث شعبنا الثوري وأمجاده وبطولاته.
إنّ الدرس الاهم الذي يمكن استخلاصه من ثورة الرابع عشر من تموز، هو ضرورة الوحدة الوطنية، والتخلص من حالة التشتت والتشرذم والطموحات الذاتية على حساب القضايا العليا للشعب والوطن، والعمل المثابر من اجل بناء اصطفاف سياسي وشعبي يقود إلى تغيير ميزان القوى السياسي والجماهيري لصالح الطامحين إلى التغيير الشامل، وهم الغالبية العظمى من العراقيين.
لقد عمل حزبنا الشيوعي العراقي، وما يزال، على جمع صفوف المنادين بالتغيير والعاملين من اجله، وتعزيز عمل التيار الديمقراطي وتحقيق وحدة عمل القوى المدنية والديمقراطية، وتعزيز تحالف قوى التغيير الديمقراطية. وعلى الرغم مما تحقق واهميته وضرورته، فهناك المزيد المطلوب على هذا الطريق، والتصدي بيقظة وحزم لشتى المحاولات والمساعي، المكشوفة والمستترة، للحؤول دون توحيد صفوف هذه القوى وتوسيع مساحة المشتركات بينها.
انّ قوى التغيير مطلوب منها اليوم ان ترتقي إلى المهام الكبرى المطلوب إنجازها وان تجعل من انتخابات مجالس المحافظات والمشاركة الفاعلة فيها فرصة للتعريف بها وببرامجها ومواقفها، وميدان صراع سياسي آخر، وان تكون احدى روافع التغيير المنشود.
إننا على قناعة كبيرة بأن شعبنا الذي فجر الثورات والانتفاضات، ولقّن الحكام درسا بليغا في انتفاضة تشرين ٢٠١٩، قادر اليوم أيضا على المضي قدما نحو تحقيق الاختراق المطلوب وكسر احتكار السلطة ودحر منظومة المحاصصة والفساد، والسير نحو غد أفضل، لا مكان فيه للسلاح المنفلت والترهيب وتكميم الافواه والتضييق على الحريات العامة والخاصة وشراء الذمم، ويتمتع فيه المواطنون بتكافؤ الفرص والحياة الحرة الكريمة.. غد بآفاق واعدة لبناء الدولة المدنية الديمقراطية وتحقيق العدالة الاجتماعية.
إنّ ذكرى ثورة ١٤ تموز المجيدة راسخة في وجدان بنات وأبناء شعبنا، ومن عبرها ودروسها نستلهم العزمَ على المضي قدما إلى امام لفرض إرادة الشعب وإقامة دولة المواطنة والمؤسسات والقانون والعدالة والديمقراطية الحقّة. وجدير أن يحتفى بها على الصعد الرسمية والشعبية: عيدا وطنيا خالدا، وان يكرم رموزها وقادتُها والمشهود لهم بالوطنية والنزاهة والإخلاص للشعب.
المجد لثورة ١٤ تموز المجيدة والشهداء الأبرار
النصر لشعبنا العراقي
اللجنة المركزية
للحزب الشيوعي العراقي
أواسط تموز ٢٠٢٣