لم نتفاجأ ولن نتفاجأ بانطلاق تظاهرات واعتصامات واضرابات وحركات احتجاجية، عامة وقطاعية ومحلية، وهي المتوقع حدوثها تبعا لاستمرار انحدار الخط البياني للأوضاع في بلادنا، مؤشرا  معاناة حقيقية يعيشها المواطن والوطن. 

ومنذ انطلاقتها الأولى في شباط ٢٠١١، والحركة المطلبية والاحتجاجية باشكالها وانواعها  المتعددة، ما انفكت تحذر من ان البلد يسير نحو منزلقات  خطرة. واذا كانت المطالَب الخدمية والمعيشية تحتل حيزا كبيرا في شعارات ومطالب المحتجين ، فان ما حصل في تشرين ٢٠١٩ و٢٥ أيار ٢٠٢١، يؤشر ادراكا متزايدا لحقيقة ان نيل تلك  المطالَب الأولية يرتبط وثيقا بمنهج وإداء  منظومة الحكم وسياساتها على الصعد المختلفة . 

ومن هنا جاءت الشعارات المطالبة برحيل منظومة المحاصصة، وبالتصدي للفساد والمفسدين، وحصر السلاح المنفلت بيد الدولة، واجراء  انتخابات مبكرة وتأمين مستلزمات جعلها انتخابات عادلة ونزيهة ومعبرة حقا عن الإرادة الحرة للمواطنين، بما يجعلها رافعة للتغيير الذي غدا استحقاقا للخلاص من المنظومة الحاكمة الفاشلة،  واستعادة هيبة الدولة وإنفاذ القانون. 

وكانت هذه الشعارات والمطالب حاضرة  في  ٢٥ أيار ايضا، حين شدد المشاركون فيها على كشف ومحاسبة قتلة المنتفضين والنشطاء وأصحاب الرأي، ووقف حملات القتل العمد والدعاوى الكيدية، والافراج عن المعتقلين والمخطوفين والمغيبين.

بعد انتفاضة تشرين ٢٠١٩ حدث الكثير من التطورات على صعيد الحركة الاحتجاجية، حيث انبثقت منها أحزاب واطر، وتنامى الادراك  لأهمية التنظيم والتنسيق وبلورة المواقف. وهذا ما شهدناه في تظاهرات ٢٥ أيار الماضي والتركيز فيها على شعار أساسي يتعلق بكشف قتلة المنتفضين، وهو ما تم التوصل إليه على نطاق واسع في اطار لقاءات ومشاورات واجتماعات مهدت للتظاهرات. وكان هذا كما يبدو من أسباب النتائج الإيجابية التي تحققت فيها، فيما  تبرز الحاجة الى استمرار الجهود لسد الثغرات والنواقص في ما يخص وحدة الموقف والاطر القيادية، والتوجه الفعلي نحو  ملايين الناس المتذمرة والساخطة على الأوضاع الراهنة وتداعياتها، سيما في هذه الأيام التي تتصاعد فيها ازمة الكهرباء ومشكلة شح المياه وتردي حالة الامن، حتى ان الاغتيالات امتدت الى افراد الأجهزة الأمنية، المطلوب منها حماية الناس وارواحهم وممتلكاتهم وتحقيق الامن والاستقرار. وربما لدواع انتخابية ضيقة يلجأ البعض الى تأجيج المشاعر والنعرات الطائفية من جديد، من دون اتعاض  بدروس سنوات ٢٠٠٥ -٢٠٠٧ الدامية الثقيلة والمحزنة .   

ويتوجب القول ان من يلجأ الى مثل هذه الممارسات، ويمتشق السلاح المنفلت ويستخدمه لفرض مواقف وإرادات سياسية، هو من يضعف الدولة ويصادر هيبتها ويشيع حالة الفوضى، وليس المواطنون المحتجون والمنتفضون السلميون المطالبون  بحقوقهم التي كفلها  لهم الدستور النافذ .

وان استمرار الوضع الراهن المثقل بالأزمات، هو الذي يقود الى الفوضى. اما الاحتجاج فمن اهدافه استكمال الشروط التي تحقق اجراء انتخابات حرة ونزيهة، وليس الفوضى. واذا بقيت الأمور على حالها، فهي الفوضى  بعينها الآن وفي المستقبل. 

من جانب آخر اصبح ضروريا تقويم الحركة الاحتجاجية واستخلاص العبر والدروس منها ورسم توجهاتها اللاحقة، كذلك معالجة القضايا التنظيمية والقيادية والانفتاح على القوى المدنية والديمقراطية والوطنية، الداعمة فعلا وقولا للحراك الاحتجاجي إدراكا منها لاهميته في  إدامة الضغط على المنظومة الحاكمة والمتنفذة، من اجل فرض الانطلاق سلميا ودستوريا على طريق التغيير. وقد وجهت تظاهرة 25 أيار رسالة مهمة الى كل من راهن ويراهن على انحسار الحركة الاحتجاجية. فهي انما جددت جذوتها، وأشرت امكانية تصاعدها مستقبلا، وهو أمر مشروط بتعزيز ما تحقق على صعيد التنظيم والمبادرة والطرح السياسي، وتعزيز عملية الانفتاح على القوى الاخرى الداعمة للانتفاضة من أحزاب سياسية ومنظمات المجتمع المدني والنقابات والاتحادات، والادراك العميق لكون قوة الحركة مستمدة أساسا من سعة القبول والدعم الشعبيين لطروحاتها  وشعاراتها وآليات عملها. 

ان عملا كبير وواسعا ينتظر الحراك الشعبي الاحتجاجي والمطلبي، وان علينا ان نواصله على مختلف الصعد، لزيادة الضغط من اجل تهيئة شروط ومستلزمات اجراء انتخابات عادلة ونزيهة وذات صدقية، وصولا الى الخلاص من منظومة المحاصصة والفساد، وتدشين عملية التغيير في اتجاه إقامة الدولة المدنية الديمقراطية، دولة المواطنة والقانون والمؤسسات، والعدالة الاجتماعية.