اثار اعلان رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي، الجمعة 28 آب الماضي، استقالته من منصبه “لأسباب صحية”، ردود فعل كثيرة عراقيا عبر وسائل التواصل الاجتماعي، عدّت ذلك امرا طبيعيا جداً بالنسبة الى البلدان المتقدمة والمتحضرة والتي تنعم بممارسة ديمقراطية حقة.
وشينزو آبي ليس المثال الوحيد هنا، فبين الحين والآخر يعتذر مسؤولون كبار في مختلف بلدان العالم عن الاستمرار في مواقع المسؤولية، لمجرد ارتكابهم أخطاء بسيطة جداً بالمقارنة مع ما يحدث في بلادنا. وتلك ثقافة متراكمة تجنّب البلدان المذكورة الانزلاق الى مشاكل كبيرة، وتتيح للشعب والجهات الممثلة له في البرلمانات اختيار بدائل مناسبة بصورة سريعة، قبل ان تتفاقم الأمور وتتحوّل الأخطاء الى خطايا.
يحدث هذا في حين لم يشهد العراق منذ نشوء دولته الحديثة تحوّل الاستقالة الى ظاهرة ثقافية وممارسة سياسية، رغم وقوع كوارث فيه تسببت في فقدان ملايين المواطنين ارواحهم. ولنتذكر الحروب العبثية غير العادلة، والتأجيج الطائفي، والمشاكل الأمنية، وملفات الفساد.. وقائمة الكوارث تطول، ويبقى المتسببون فيها متمسكين بكراسي الحكم.
فعموما لا يتم ابعاد هؤلاء في بلادنا الا بالإقالة او الانقلاب، ومؤخرا بالانتخابات الى حد ما، لان هذه تشهد الكثير من الالتفاف والتزوير واللجوء الى كل الوسائل غير القانونية، لتأمين بقاء المسؤول المتنفذ الفاسد والفاشل في موقعه. وبفضل تسخيره كل إمكانيات المنصب لمصلحته ومصلحة زبانيته وداعميه، الى جانب بناء الجهات المتنفذة عموما اخطبوطا لها داخل مؤسسات الدولة على اختلافها، وزرعها المريدين فيها، واستيلائها على المواقع تلو المواقع، اصبحت مهمة المساءلة والمحاسبة امرا متعذرا.
ان المناصب في العراق اليوم، لا سيما في المواقع المتميزة، تباع وتشترى، وهي لَم تعد للخدمة العامة بل غدت في عمومها احتكارا سياسيا يتفق على تقاسمه مسبقاً، دون مراعاة الكفاءة والمهنية والنزاهة. وهذا ما أدى الى الفشل الذريع الذي نشهده، والى هدر الوقت، والى ضياع مليارات الدولارت دون رقيب او حسيب.
ومؤخرا وبفعل الضغط الشعبي والحراك الجماهيري، فرض على القوى المتنفذة تقديم تنازلات لصالح انتفاضة تشرين وشبابها، واجبر رئيس الوزراء حينها على الاستقالة بعد إراقة دماء زكية. لكن ذلك لَم يفتح الطريق نحو التغيير الشامل، وبقيت القوى المتنفذة تسعى الى الخروج من عنق الزجاجة والالتفاف على المطالب، وتحاول كسب المزيد من الوقت للملمة شتاتها وقواها، كي تعود ثانيةً الى تصدر المشهد السياسي والتحكم فيه. ومن بين وسائلها الى ذلك تعديل قانون انتخابات مجلس النواب، وعدم تقديم القتلة ومن وراءهم الى المحاكم العادلة، وعدم فتح ملفات من تسببوا في الفساد، صغارا وكبارا، وعبثوا بالمال العام.
وازاء هذه الأجواء وبالضد منها، وسماعا لصوت الشعب فِي مجرى الانتفاضة، وانحيازا الى المواطنين والمنتفضين وتضامننا معهم، قدم ممثلا الحزب الشيوعي في مجلس النواب وممثلوه في مجالس المحافظات استقالاتهم، في تعبير جليّ عن استنكارهم للقمع الوحشي ولصمت مجلس النواب ومجالس المحافظات إزاء الانتهاكات الفظة لحقوق الانسان وللدستور، وعجزها عن القيام بعمل ملموس لوقفها والاستجابة لمطالب المنتفضين.
فشتان بين الموقفين، موقف القوى المتنفذة المسؤولة عن التدهور الحاصل في كل المجالات، والموقف الوطني الأصيل الذي عبر عنه الشيوعيون بانحيازهم التام الى شعبهم، من دون اكتراث لامتيازات المواقع.
وان مسيرة عشرة أشهر منذ اندلاع الانتفاضة المجيدة، لتؤكد ان تصعيد الحراك الاحتجاجي السلمي وتنويعه وتوسيع صفوفه وتصعيد الدعم الشعبي له، كفيل بفرض الاستقالات على الفاشلين والفاسدين، والا فقطع الطريق على اعادة انتخابهم، وإنهاء هيمنتهم على مواقع القرار، التي سخروها لخدمة مصالحهم الضيقة، على حساب جوع ومرض وفقر غالبية أبناء الشعب.