شهدت الأيام الماضية حراكا جماهيرياً واسعاً شمل بغداد والعديد من محافظات الوطن، وجوبه بعنف وقسوة شديدين سقط نتيجتهما شهداء وجرحى ومصابون، ونشرت الجهات الرسمية أرقاما عالية، فيما تشير معطيات أخرى إلى حصيلة من الضحايا أكبر من تلك المعلنة.

وحصل خلال هذا انتهاك فظ للحريات الدستورية، وتكميم للأفواه، ومطاردة واعتقالات، واغلاق لبعض الفضائيات. واكتفت الدولة بإعلانات الرفض لهذه الممارسات، ولم تذكر شيئا عن الجهات المرتكبة بل عزتها الى جهات غير معروفة.

ان المطلوب الآن هو الوقف الفوري للقمع، واطلاق سراح المعتقلين، ووقف الملاحقات، وتحديد المسؤولين المباشرين عن ذلك. كما ان من الملح السؤال عن المسؤولية السياسية في ما آل إليه الوضع الراهن، ومدى الجدية في معالجته، وإنقاذ البلاد من المحنة التي دُفعت إليها بفعل سياسات وممارسات خاطئة وفاشلة، يجري الإصرار على التمسك بها رغم كل ما حدث ويحدث.

لقد أكدنا باستمرار ان الحركة الاحتجاجية بمختلف تجلياتها قد يضعف زخمها بين فترة وأخرى، لكنها قد تعود وتتجدد على نحو واسع وشامل، طالما بقيت دوافعها قائمة ومحفزاتها باقية، بل انها في وضعنا العراقي الراهن تضاف اليها باستمرار عوامل ودوافع جديدة، تغذيها وتديمها وتزيد من إعداد المتذمرين والساخطين.

وتكمن الدوافع اساساً في بنية النظام الخاطئة التي تشكلت بعد ٢٠٠٣ والقائمة على المحاصصة والإقصاء والتهميش، والانفراد بالقرار السياسي. ومؤخرا أضيف التعدد في القرار الامني، على حساب أجهزة ومؤسسات الدولة المعروفة والتابعة لوزارتي الدفاع والداخلية.

 وفِي مجرى التطورات بعد ٢٠٠٣ وبمساهمة فاعلة من المحتل واستمراء من بعض القوى المتنفذة، جرى تبني أسس خاطئة في إدارة البلد، ولم يتم تصحيح ذلك حتى بعد إنهاء الاحتلال رسميا في ٢٠١١، بل وجد العديدون في ذلك ضالتهم، لانه يديم لها سلطتهم ونفوذهم وهيمنتهم على القرار. وتكوّن حلف غير مقدس بين أصحاب النفوذ والقرار في الدولة من جانب، وكبار أصحاب المال ومالكي البنوك والإعلام من جانب آخر، وجرى تماهٍ مريب حتى مع عناصر الجريمة المنظمة والمليشيات المنفلتة.

وجرى عمليا التخلي عن مبدأ المواطنة والهبوط بالدولة الى عناوين ومكونات فرعية، ما اضعف الدولة ذاتها كثيرا وثلم هيبتها حتى غدت في أحيان كثيرة بلا حول امام جبروت السلاح، حتى الثقيل منه. كما تجلى هذا في عدم قدرة مؤسسات الدولة على فرض الأمن والاستقرار في بعض المحافظات حتى بعد دحر داعش عسكريا. ثم تجلى أخيرا في الإعلان الرسمي عن "عدم معرفة " هوية القناصين الذين يقتلون بدم بارد المتظاهرين والمحتجين وجلهم من الشباب اليافع.

وان من ظواهر ضعف الدولة تعدد مراكز القرار فيها والأخطر في الجانب الأمني، والتدخل الخارجي الكبير في شؤون الدولة وقراراتها وفي رسم توجهاتها ومصادرة القرار الوطني العراقي المستقل. وكل هذا يؤدي الى شل مؤسسات الدولة وفقدانها القدرة على اداء واجبها من جهة، وفقدان ثقة المواطنين بها من جهة أخرى. ويشمل ذلك الى حدود معينة حتى مؤسسات القضاء.

ولَم توظف الأموال التي تدفقت على البلاد في احداث عملية تنمية حقيقية، والارتقاء بالقطاعات الإنتاجية والخدمية، وإيجاد حالة من الرفاه والازدهار في البلد. فقد هدرت أموال طائلة  وتفشى الفساد حتى غدا منظومة متكاملة يدور في فلكها وخدمتها مؤسسات وبنوك ومتنفذون ومسلحون. وساءت الخدمات العامة وتدهورت أوضاع قطاعات كبيرة كالصحة والتعليم والكهرباء والنقل، وانتشرت العشوائيات بسبب عدم توفير السكن للمواطنين، وارتفعت نسب الفقر والبطالة خاصة بين الشباب، ومنهم حملة الشهادات الجامعية والعليا.

يضاف الى ذلك القضم التدريجي للحقوق، والتضييق على الحريات ومصادرة حق التظاهر السلمي عمليا، عبر تحريك ماكنة للقمع والقتل العمد للمتظاهرين. كذلك الإصرار على تشريع قوانين تديم وتؤبد سلطة المتنفذين، ومواصلة العديد منهم نهب عقارات الدولة وممتلكاتها والمال العام.

ان هذا وغيره هو ما أوجد هذه الهوة الكبيرة بين الثراء الفاحش والفقر المدقع لمن لا يجد قوت يومه، والذي لم يجد بعد ان أوصدت أمامه كافة الأبواب سوى ان يخرج محتجا دفاعا عن مطالبه المشروعة وحقه في العيش الكريم.

ان هذا هو ما دفع ويدفع المتظاهرين، والشباب هم أغلبيتهم الساحقة، الى كسر حاجز الخوف والتردد، والخروج بصدور عارية في مواجهة القمع ورصاص " القناصة مجهولي الهوية !"

إن ترحيل أسباب الازمة ودوافع تفجرها إلى أسباب جانبية مشكوك في جديتها، أو هي خارج اطار مطالبات الناس الواضحة والصريحة، لن يؤدي إلى معالجة جادة ومسؤولة، ولا الى اخراج البلد من مأزقه. وان ما اعلن من توجهات وبرامج وإجراءات، وان جاء متأخرا ودفع المواطنون دماء زكية طاهرة مقابل خروجه الى النور، يبقى امام اختبار مدى الجدية في تنفيذه الواقعي والملموس.

وعلينا الا ننسى التجارب السابقة، التي بيّنت أن اغداق الوعود والتسويف في تنفيذها لا يجلب الا الكارثة على المسببين أولا وعلى البلد عامة.

ان الاختبار الجدي سياسي بامتياز، وهو يتوقف على مدى توفر الإرادة لأحداث تغيير شامل مطلوب وملح، وفي المقدمة تنفيذ مطلب تشكيل حكومة من كفاءات وطنية نزيهة، قادرة على تنفيذ مطالب الشعب، وتقود البلد الى شواطئ الامان والاستقرار وحقن الدماء، وتوفير لقمة العيش الكريم للمواطن.