بعد سنتين من موعد الاستحقاق الانتخابي لمجالس المحافظات، الذي حل في اواخر سنة 2017، وبعد ان تجاوزت هذه المجالس بسنتين عمرها المنصوص عليه في القانون، والمحدد بأربع سنوات، اقترحت مفوضية الانتخابات اليوم التاسع من تشرين الثاني المقبل موعدا جديدا لإجراء انتخابات هذه المجالس. وبالنظر الى هذا التخلف الكبير عن الوفاء بالاستحقاق المذكور، فان العيون تتجه اليوم الى الحكومة لاتخاذ قرار بالتوجه نحو الانتخابات في الموعد المقترح.

وارتباطا بالإشكالات المختلفة المحيطة بمجالس المحافظات ونشاطها في السنين الماضية، ودعوة البعض الى حلها او تجميدها نظرا الى ما يلاحظ في عملها من سوء ادارة وفساد وبيروقراطية وغيرها، يتوجب التذكير بالطبيعة الدستورية لهذه المجالس، وكونها تشكل تجسيدا للديمقراطية في توجهها للحد من المركزية المفرطة، واشاعة اللامركزية وتوسيع سلطة وصلاحيات المحافظات وجماهيرها في ادارة شؤونهم المحلية. اما الادارة السيئة والفساد وغيرهما من الظواهر السلبية، فيجب ان تتم مواجهتها ومعالجتها بكل مسؤولية. وليس صحيحا ان نهدم الكيان كله بالتهرب من مداواة علله.

من جانب آخر لا جدال في ان الانتخابات بحد ذاتها ليست هدفا، ونحن لا نريدها فعالية شكلية لديمقراطية مشوهة، وانما المطلوب هو انتخابات شفافة ونزيهة وعادلة، لاختيار الممثلين الحقيقيين للشعب والمعبرين عن مصالحه.

وارتباطا بأوضاع بلادنا وما تعانيه من ازمة عامة شاملة، ولكي يمكن تخليصها من الآثام والشرور التي تهددها، ووضعها على طريق التقدم والسير نحو بناء دولة العدالة والقانون والمؤسسات، الدولة المدنية الديمقراطية المستقلة، التي يتمتع شعبها بالمساواة والحرية والعدالة الاجتماعية، وبخيرات وطنها وثرواته.. من اجل هذا وغيره، اجمعت غالبية القوى الوطنية الحريصة على ضرورة العمل لتغيير الاوضاع، واجراء الاصلاح، ونبذ نظام المحاصصة والطائفية السياسية، ومحاربة الفساد، والتخلص من سوء الادارة.

ومن المؤكد ان المدخل الصحيح الى ذلك، تؤمّنه الانتخابات النزيهة والاختيار الحر لأفضل ممثلي الشعب واصدقهم، واكثرهم كفاءة لعضوية مجلس النواب ومجالس المحافظات والهيئات التمثيلية الاخرى، ممن تسندهم ارادة الجماهير الواسعة وحراكها النشيط المنظم.

ان الاصلاح الجاد والحقيقي يتطلب ادوات ومؤسسات سليمة. فلا اصلاح ناجعا والهيئات التمثيلية مريضة وضعيفة الصدقية. ولكي نستبعد هذه وتلك، لابد من توفير مجموعة مستلزمات ضرورية، تعكس قناعة وايمانا حقيقيين بالديمقراطية.

ولعل من أبرز هذه المستلزمات توفير بيئة سياسية حرة ومستقرة، وتأمين تنافس شريف بعيد عن الضغوط الاجتماعية والاقتصادية والسياسية – الامنية، ووجود ادارة (مفوضية) نزيهة كفؤة مهنية ومستقلة، الى جانب قانون احزاب عادل يضمن مراقبة تسلكات المتنافسين والتزاماتهم القانونية، من حيث استخدام المال السياسي ومصادر التمويل وغير ذلك. هذا اضافة الى قانون انتخابات يضمن سلامة العملية الانتخابية، واجراءها بسلاسة وعدالة، بعيدا عن المؤثرات المسيئة الى نزاهتها من غش وتزوير، ومن حرف للإرادة عبر الضغط والارشاء وشراء الذمم والدعاية الكاذبة. كذلك تنظيم الاشراف القانوني والرقابة الدقيقة والصادقة، المحلية والدولية، على مجريات العملية الانتخابية ونتائجها.

نشير الى هذا كله ارتباطا بما يجري من نقاش حول مشروع تعديل قانون انتخاب مجالس المحافظات الرقم 12 لسنة 2018 في مجلس النواب.

ان السؤال هنا هو: هل يتجاوب هذا المشروع مع مطالب شعبنا العامة بالاصلاح والتغيير؟ وبتعديل القانون لينسجم مع الحاجة الى تشريعات عصرية، عادلة، تعكس تطلعات الجماهير المكتوية بنار التزوير والغش؟ ام ان هذا المشروع يعبر عن اصرار القوى المعادية للإصلاح على اعادة انتاج القواعد والاسس والوجوه نفسها، التي تكرس نظام المحاصصة الطائفية، وسرقة الاصوات، وتزوير ارادة الناخبين؟

ان قراءة متأنية للتعديلات المقترحة تؤشر:

  • اصرارا على تهميش وابعاد العديد من القوى والشخصيات عن المؤسسات التمثيلية، بزيادة النسبة في معادل سانت ليغو الى 1.7 في المائة (وهذا ما شككت المحكمة الاتحادية بدستوريته، في ردها على الاعتراضات التي قدمت حول قانون انتخابات مجلس النواب السابق) وذلك لضمان سرقة الاصوات لمصلحة القوى الكبيرة المتنفذة.
  • الابقاء على 30 سنة كحد أدني للترشيح، وتجاهل دور الشباب، وصم الآذان ازاء مطلب خفض السن الى 25 سنة.
  • تجاهل قرار المحكمة الاتحادية وتفسيرها النص الدستوري الذي يحدد نسبة 25 في المائة من المقاعد حصة ملزمة للنساء.
  • الاصرار الغريب على تحديد مستوى الشهادات الدراسية المطلوبة، بما يحرم شرائح واسعة من ابناء الشعب (خصوصا من جمهور الكادحين) من حق الترشيح، وكأن الفساد والبيروقراطية وسوء الادارة ترتبط بمستوى الشهادة الدراسية لا غير!
  • اقحام مسألة ازدواج الجنسية في الترشيح لعضوية مجالس المحافظات! فهل ان مقاعد هذه المجالس مواقع سيادية؟! ام هي محاولة التفاف على ضرورة تشريع قانون انتخابات عادل وعصري، يتقيد بما جاء في الدستور من متطلبات وضوابط بالنسبة الى ذوي الجنسيات المزدوجة في تسنم المناصب السيادية؟
  • كذلك النص الخاص بعدد اعضاء مجالس المحافظات وضرورة تقليصها (وهو مطلب منطقي) ارتباطا بما سبق ذكره من ملاحظات، الامر الذي يفرغه من محتواه المطلوب لمصلحة القوى المتنفذة ذاتها.

اخيرا نقول ان على الاحزاب والقوى الوطنية والديمقراطية، وبضمنها منظمات المجتمع المدني والشخصيات الطامحة الى انقاذ البلاد من أزمتها الشاملة، ان تعمل بجد ومسؤولية لتعديل القانون في الاتجاه الذي يخدم تحقيق التغيير والاصلاح، لا في اتجاه تكريس الامراض والتشوهات التي تسعى قوى الفساد لتغذيتها وإدامتها.