المقدمة
ظلت الأزمة السودانية تتجدد وتتواصل على الرغم من الثورات المشهودة بعد الاستقلال، وظلت جهود الثوار وتضحياتهم تذهب هدرا، بعد ثورة أكتوبر ١٩٦٤، انتفاضة أبريل ١٩٨٥ وثورة ديسمبر ٢٠١٩.
تكررت في هذه الثورات والانتفاضات ظاهرة اختطاف ثورات الشعب السوداني، لصالح القوى التي استلمت السلطة بعد خروج المستعمر من بلادنا، وأصبحت بحكم الواقع بديلا ووكيلا مخلصا لقوي الاستعمار العالمي والاقليمي بعد رحيلها من بلادنا عبر التقاطعات بين مصالحها التاريخية مع قوى الاستعمار. وفي سبيل الحفاظ على هذه المصالح الضيقة والتي لا تمت بأي صلة لمصالح شعب السودان. لعبت هذه القوى أدوارا تاريخية في استخدام المؤسسة العسكرية في الانقلاب على حكومات الفترات الديمقراطية قصيرة الاجل، لقطع الطريق أمام أي بصيص أمل لاحتمال التحول الديمقراطي للوصول الى الحكم المدني الديمقراطي. ووصف الزميل الراحل محمد إبراهيم نقد هذه الظاهرة ب (الحلقة الشريرة). وهي ما زالت تتكرر إلى يومنا هذا من خلال هذه الحلقة.
سعت قوى وطنية معروفة في تكوين تحالفات تستند على رؤية مشتركة للتصدي للقضايا التي تواجهها كثير من الدول التي تعاني من إرث الاستعمار والمعروفة بدول التحرر الوطني.
كشفت تطورات الوضع في السودان ان القوى الإقليمية والدولية، لا تزال تصر على الهيمنة على موارد بلادنا واستغلال الظرف الجيوسياسي لبلادنا بالاستعانة بقوى داخلية تسعى للمحافظة على امتيازاتها التاريخية، أو تلك التي توفرت لها من خلال اختطاف ثورة ديسمبر المجيدة.
ليس أمرا جديدا، أو غير مألوف ان تسعي اي قوى سياسية، حركات مسلحة، منظمات مجتمع مدني أو أي كيانات سودانية الى تقديم المبادرات والأفكار المتنوعة بهدف معالجة هذه الازمة السودانية الممتدة منذ فجر الاستقلال حتى وراء ذلك التاريخ.
هناك نماذج لهذه المبادرات من بينها التجمع الوطني الديمقراطي، قوى الإجماع الوطني، قوى التغيير الجذري.
هذه المبادرات كلها اتفقت على ان هذه المحاولات والمواثيق هي اجتهادات من هذه القوى، يتم طرحها للجماهير لمناقشتها للوصول إلى رأي جماهيري بشأنها.
المخالف لهذه الرؤية أن طرفي الحرب في مجموعة بورتسودان وفي نيروبي يسعيان الى فرض الوصاية على شعب السودان، وكلاهما يفتقران إلى أي شرعية دستورية.
لقد أوضح حزبنا سابقا أن الحرب الجارية في السودان واطالة امدها إلى ما يقارب العامين من قبل الإسلاميين والدعم السريع بهدف السلطة والثروة والتمكين للمحاور الدولية والإقليمية التي تسلح طرفي الحرب، سوف تؤدي إلى مزيد من التفكك للبلاد بعد انفصال الجنوب. ويستمر نذر التقسيم التفكك بما حدث الأحد 22 فبراير من توقيع على ميثاق تأسيس حكومة موازية بين الدعم السريع والحركة الشعبية شمال، إضافة إلى قوى سياسية مسلحة وأهلية. وتضمن الميثاق أهدافا ومبادئ منها إيقاف الحرب وإيصال المساعدات والعلمانية الخ..
ما يثير التساؤل هو التوقيع على ميثاق لتأسيس حكومة مع مليشيا الدعم السريع وهي المتورطة منذ تأسيسها، مدعومة من النظام البائد، في جرائم إبادة جماعية وتهجير قسري ونهب وسلب واغتصاب في دارفور منذ العام 2003.. والقمع الوحشي للمواكب السلمية كما حدث في هبة سبتمبر ومجزرة فض الاعتصام. وانقلاب 25 أكتوبر الذي قاد إلى الحرب اللعينة الجارية والتي ارتكبت فيها جرائم حرب، خلاف ارتباطها بالمحاور مثل الإمارات التي تنهب ثروات الوطن، مما يقود إلى انفجار الوضع وتقسيم البلاد.
في المبادئ العامة في الميثاق، أن الدولة السودانية تقوم على مبدأ الوحدة الطوعية لشعوبها واقاليمها، ما يضمن التعايش السلمي، وفي حالة عدم إقرار العلمانية في الدستور، يحق لجميع الشعوب السودانية ممارسة حق تقرير المصير، اي الانفصال. ويلاحظ في أكثر من موقع في الميثاق الحديث عن الوحدة الطوعية والعلمانية دون إتاحة مساحة للتفاوض والنقاش حول المفهوم والتوصل إلى توافق عبر مؤتمر دستوري يحول دون انفصال اي جزء من الوطن.
ويلاحظ التناقض بين البند 14 والبند 20 من الميثاق. ففي البند 14: يؤسس جيش وطني جديد وموحد ومهني وقومي.. الخ.. في حين ورد في البند 20: الإقرار بحق الحركات المسلحة في الاستمرار في الكفاح المسلح كوسيلة من الوسائل المشروعة للمقاومة والنضال من أجل التغيير لبناء السودان الجديد.!
وفي الجانب الآخر، تسعى حكومة الأمر الواقع في بورتسودان إلى شرعنة وجودها باستغلال الوثيقة الدستورية المعيبة والتي تم تقويضها بالانقلاب عليها في الخامس والعشرين من أكتوبر 2021 وإعلان تعديلها بحذف مواد وإدخال موادا جديدة وتعديل ثالثة.
يتضح من التعديلات مدى التشبث بالسلطة وتكريس حكم الفرد وبقبضة حديدية أقوى مما كانت عليه تحت الحكم الثلاثيني المباد، وذلك بالعودة إلى الدولة الدينية وجعل مصادر التشريع الشريعة الاسلامية والأديان الأخرى والتقاليد، وإسقاط جريمة إشعال الحرب وتدمير الوطن والجرائم ضد الإنسانية والعودة لبدعة ابعاد المجلس التشريعي (صوت الشعب) واستبداله بمجلسي السيادة والوزراء بخدعة (إلى حين تكوينه) كما حدث إبان الفترة الانتقالية! إضافة إلى جعل مجلس السيادة رأسا للدولة ورمزا لسيادتها رغما عن تكوينه الذي يطغى عليه منسوبو القوات المسلحة والحركات المسلحة، دون ذكر حلا للمليشيات أو تنفيذا للترتيبات الأمنية.. DDR.
وفي غياب المجلس التشريعي، يتم تعيين وإعفاء رئيس الوزراء وتعيين الوزراء وقائد الشرطة وحكام الأقاليم ورئيس القضاء ونوابه، وتعيين وإعفاء القائد العام للقوات المسلحة (بعد توصية هيئة وقيادة القوات المسلحة) - كذلك إعلان حالة الطوارئ رغم العبارات الملتوية. وجعل إعلان الحرب بمشاركة القوات المسلحة رغم التواء العبارات.
خلاصة الأمر، بعد قراءة التعديلات على الوثيقة الدستورية المزعومة، يتضح استغلال فلول النظام البائد لظروف الحرب التي أشعلوها عمدا لوأد الثورة والعودة إلى نظامهم المباد، وإحكام قبضتهم على السلطة بصورة أشد شراسة ووحشية.
ان تكوين حكومة موازية أو إجراء حكومة الأمر الواقع لتعديلات دستورية أو غيرها، سوف يقود ذلك إلى مزيد من التوترات تحت ظل تصاعد الحرب بين الإسلامويين في الجيش ومليشيا الدعم السريع التي تسيطر على معظم إقليم دارفور، الشيء الذي سوف يعجل بانفصال دارفور واستطالة الحرب. مما يتطلب الإسراع بالتصعيد الجماهيري وتكوين الجبهة الجماهيرية القاعدية العريضة لحماية وحدة الوطن وخروج العسكر ومليشيا الدعم السريع من السياسة والاقتصاد، وعدم الإفلات من العقاب بمحاسبة كل الذين ارتكبوا جرائم حرب وضد الإنسانية... واستكمال أهداف ثورة ديسمبر المجيدة وتعزيز السلام والحكم المدني الديموقراطي، واستدامة التداول السلمي للسلطة.
المكتب السياسي
٣ أبريل ٢٠٢٥