من اهم إنجازات ماركس الفلسفية انه ربط المادية بالديالكتيك، فانتج لأول مرة في تاريخ الفكر الفلسفي الديالكتيك المادي الذي اطلق عليه بليخانوف لاحقا مفهوم المادية الديالكتيكية، وهو حجر الزاوية في الفلسفة الماركسية. ولم يقتصر ماركس على هذا، وانما دفع المادية الديالكتيكية الى الحقل الاجتماعي، فانتج لنا المادية التاريخية التي ربطت الفلسفة بالتاريخ. وحقق ماركس إنجازه الكبير الاخر في الحقل الاقتصادي، حين ربط الاقتصاد السياسي بقوانين التطور الاجتماعي، فاصبحت العلاقة الجدلية بين النظرية والتطبيق هي جوهر الفلسفة الماركسية.
الماركسية كما قال لينين هي "التتمة لمذاهب اعظم ممثلي الفلسفة والاقتصاد السياسي والاشتراكية ". وقد لخص ماركس المهمة الكبرى التي تصدت لها فلسفته في الموضوعة الحادية عشرة عن فويرباخ ؛ " ان الفلاسفة لم يفعلوا غير ان فسروا العالم باشكال مختلفة ولكن المهمة تتقوم في تغييره ". ولأول مرة في التاريخ تحولت الاشتراكية من " طوباوية الى علم "، واعطت الماركسية الانسان مفهوما جديدا متماسكا عن العالم، وفتحت الباب امام البروليتاريا باعتبارها القوة الاجتماعية المؤهلة لبناء عالم خال من الاستغلال.
ان ماركس " هو اول من ادخل مفهوم الممارسة في نظرية المعرفة "، فاصبح النشاط النظري مترابطا مع الممارسة والنشاط المباشر الذي يمارسه الانسان على بيئته، ومن خلال ذلك التفاعل بين النظرية والتطبيق تتكشف صحة المعرفة. ان ثلاثية لينين المعروفة في نظرية المعرفة الماركسية ؛ " من العمل الحي الى التفكير المجرد الى الممارسة " جسدت أهمية حركة الواقع من جهة، ومن جهة أخرى الأهمية البالغة للنشاط البشري ضمن هذا الواقع كمقياس لصحة المعرفة، فنظرية المعرفة الماركسية تبدا بالواقع وتنتهي اليه. واقترنت نظرية الممارسة عند ماركس بعملية النقد، وتعكس حياة ماركس الفكرية تطوره الفكري من خلال نقده للمدارس التي تبناها ثم تخلى عنها عبر عملية النقد المتواصل لكشف الحقيقة وإنتاج معرفة بديلة، ومنجزاته الخالدة في حقل الفلسفة والاقتصاد هي نتاج عملية النقد للمعرفة التي سبقته.
اعتمدت نظرية ماركس في السياسة على كيفية الانقضاض على النظام الراسمالي كخطوة أولى لتغيير العالم، والانتقال به من مجتمع الضرورة الى مجتمع الحرية، أي البحث عن الوسائل التي تساعد على تحويل المنجز النظري في حقل الفلسفة والاقتصاد الى واقع يعيشه المواطن في ظل الانتقال الكيفي من الراسمالية كتشكيلة اقتصادية اجتماعية الى الاشتراكية كخطوة أولى نحو التشكيلة الشيوعية.
ارتباطا بطبيعة المجتمع الراسمالي الذي اعتمد على منجزات العلوم الاجتماعية والتطبيقية في ترسيخ جذوره وإدارة مؤسساته بطريقة منظمة، لجا ماركس في مقارعته لهذا النظام الى اعتماد التنظيم والدقة ومجموعة مبادئ واسس وإجراءات في نضال الطبقة العاملة لتحقيق أهدافها، وابتدا بأول تلك الوسائل وهو تأسيس (عصبة الشيوعيين) عام 1847 كاول حزب سياسي يمثل الطبقة العاملة يسعى للانقضاض على الراسمالية، ضم تحت جناحه مختلف التيارات الاشتراكية في تلك الأيام من الفوضوية والبرودونية واللاسالية إضافة لجناح ماركس وانجلز، وكانت عضوية الحزب اممية الطابع بعيدا عن الانتساب القومي او الوطني، واعتمد التنظيم السري في تحركه، والخطوة الثانية هي اصدار بيان اعده ماركس وانجلز بتكليف من مؤتمر العصبة، اصبح هذا البيان بلغته الخاصة والمميزة ومنهجه المادي التاريخي في التحليل " انجيل " الثوريين، والشبح الذي يطوف في المدن الاوربية وامريكا، وبعد شهرين من صدوره انفجرت ثوة 1848. ثم توجه ماركس الى تعزيز نفوذ النقابات ونضالاتها الاقتصادية التي تشكل الأساس الذي ينطلق منه الحزب السياسي في نضالاته المختلفة، وبعد حل (عصبة الشيوعيين) عام 1853، توجه ماركس لتاسيس الأممية الأولى عام 1864 كشكل جديد لتعزيز وتحشيد نضالات الطبقة العاملة، وبعد كوميونة باريس لجا ماركس الى أسلوب النضال ضمن الديمقراطية البرجوازية، للوصول الى مواقع القرار عبر صندوق الانتخابات، وهذا الأسلوب فرض موضوعيا تأسيس أحزاب الاشتراكية الديمقراطية التي تضع برامجها وسياساتها على ضوء ما هو خاص في بيئتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ولكل حزب قيادته التي تقرر برامجه وأسلوب نضاله، وبعد حل الأممية الأولى لجا انجلز الى تأسيس الأممية الثانية عام 1889 بعد وفاة ماركس.
يمكن القول بان براكسس ماركس كانت مرنة وحدثت فيها انتقالات كبيرة. وواجهت محاولات ماركس وانجلز في مجال ممارسة النظرية الكثير من المصاعب والعقبات منذ البداية، لاسباب عديدة وعلى راسها عدم اكتمال أدوات التحليل النظرية للظاهرة الراسمالية قبل الشروع بكتاب راس المال، ما جعل روح التفاؤل التي غلبت عليها الرغبوية، تطغى على طروحات ماركس وانجلز قبل ثورة 1948، فقد ذكر انجلز " ان التاريخ بين اننا نحن أيضا لم نكن على حق وان وجهة النظر التي كنا نتمسك بها كانت وهما من الأوهام وان التاريخ غير تماما الشروط والظروف التي ينبغي للبروليتاريا خوض النضال في ظلها، فان وسيلة النضال التي استخدمت في عام 1848 قد شاخت الان من جميع النواحي ". واكد نفس الفكرة ماركس " ان تطور الجمهورية البرجوازية التي انثبقت عن ثورة 1848 ادت الى انحصار السيادة الفعلية في يد البرجوازية الكبيرة بينما جميع الطبقات الاجتماعية الأخرى – الفلاحون والبرجوازيون الصغار التفوا حول البروليتاريا. وبين التاريخ ان إمكانية تحول ثورة الأقلية الى ثورة الأكثرية ليس الا وهما. اذ لم يكن من الممكن في 1848 التوصل الى التحول الاجتماعي بمجرد الهجوم المفاجئ، وان العودة الى الإمبراطورية في عام 1851، أعطت برهانا جديدا على عدم نضج التطلعات البروليتارية في ذلك الزمن.
ان فشل تحقيق تطلعات البروليتاريا بعد ثورة 1848، قاد ماركس الى التوجه لدراسة المجتمع الراسمالي بعمق وبهدوء، ما جعله مضطرا الى حل عصبة الشيوعيين، ليس بسبب الحملة الإرهابية الشديدة التي شنتها قوى الراسمال على الحركة العمالية بعد ثورة 1848 فحسب، وانما لاعادة انتاج معرفة جديدة تقود الى كشف القوانين الاقتصادية التي تتحكم في التشكيلة الاقتصادية الراسمالية، والتعمق اكثر في القوانين الموضوعية للثورة الاجتماعية، ومفهوم الدولة والمجتمع المدني، واعتكف ماركس خلال الخمسينات من القرن التاسع عشر في مكتبة المتحف البريطاني، ودرس اكثر من عشرة الاف وثيقة، واطلع على جهود لجان تفتيش المعامل في السجلات الزرقاء، وانتهى أخيرا الى منجزه الخالد (راس المال) الذي كشف فيه قوانين التطور الراسمالي وخصوصا قانون فائض القيمة وقانون التراكم الراسمالي.
بعد مرور خمسة عشر عاما على فشل ثورة 1848، اصبحت جلية لديه العلاقة بين الازمات الاقتصادية الدورية للراسمالية وبين توفر الوضع الثوري الذي يساعد الطبقة العاملة في تصعيد نضالاتها، وتمكن من تأسيس الأممية الأولى " جمعية الشغيلة العالمية " عام 1864 ونجحت في تطوير نشاط الحركة العمالية، وبلغت مستوى مؤثرا في بعض البلدان مثل فرنسا وألمانيا وانكلترا وإيطاليا، ونقطة الضعف الرئيسية في هذه الأممية هي استحواذ الفوضوية والاصلاحية على مقاليد الحركة العمالية في عدد من مراكزها الرئيسية، ما دفع الطبقة العاملة الباريسية - مستغلة هزيمة الجيش الفرنسي امام الجيوش البروسية - الى الاندفاع لاستلام كوميونة باريس وإعلان الحكومة العمالية فيها، رغم تحذيرات ماركس من المخاطر المحدقة بهذه المحاولة، فانشغل عمال باريس في إدارة شؤون المدينة تاركين أعداء الكوميونة من بقايا الجيش الفرنسي واتباع الامبراطور يعيدون تنظيم انفسهم في فرساي القريبة من باريس، ليشنوا هجومهم الغادر على العاصمة باريس وتتكبد الطبقة العاملة هزيمة مرة بعد شهرين من اعلان الثورة، ورغم ذلك فان ماركس مجد الكوميونة وابطالها، واعتبرهم مقتحمين للسماء، وراى فيها ماركس " حكومة الطبقة العاملة التي تؤدي الى التحرر الاقتصادي للعامل. ومحت الكومونة ادوات الهيمنة البرجوازية اذ استبدل الجيش النظامي بمليشيات شعبية مسلحة وازيحت الديمقراطية البرجوازية لتحل ديمقراطية مباشرة محلها، وتشكلت ملامح دولة جديدة ".
ادت نتائج كوميونة باريس بماركس وانجلز الى انتهاج سياسة جديدة تماما تبنتها الأممية الثانية التي أسسها انجلز عام 1889، وهي نضال البروليتاريا عبر الاليات البرلمانية وتاسيس أحزاب اشتراكية ديمقراطية لها نظمها الداخلية وسياساتها التي تقررها مؤتمراتها وفق ظروفها الخاصة، واستطاعت الحركات الاشتراكية عبر هذا الشكل من النضال من إيصال اعداد جيدة ومؤثرة من ممثلي الطبقة العاملة الى برلمانات اغلب الدول الراسمالية الصناعية المتقدمة، واستطاع العمال الى تحويل الحق الانتخابي من وسيلة للخداع كما خططت الراسمالية الى أداة لتعزيز دور الطبقة العاملة. وهذا اعطى ثقة كبيرة للعمال بانفسهم، وعرفهم بمستوى قوتهم الحقيقية وقوة اعدائهم أيضا ونقاط ضعفهم.
بعد فترة الازدهار والاستقرار السلمي الذي مرت به الراسمالية بعد الكوميونة من عام 1971 الى 1904، أي قبيل الثورة الروسية الأولى عام 1905، استجدت ظروف جديدة على النظام الراسمالي، اذ انتقلت الراسمالية من مرحلة المنافسة الحرة الى مرحلة الامبريالية التي عرض لينين ميزاتها في كتابه (الامبريالية اعلى مراحل الراسمالية)، وفرضت على لينين موضوعيا ان يضع نظرية سياسية جديدة في ظل وضع ثوري خاص بروسيا، يقابل ذلك وضع غرامشي نظرية سياسية تعكس الوضع غير الثوري الذي ساد في البلدان الراسمالية المتقدمة خلال وبعد الحرب العالمية الأولى.
يمكننا الاستفادة من الدروس الغنية التي خلفتها نظرية ماركس في السياسة، ومن ضمنها، على الطبقة العاملة ان تناضل على جبهات عديدة في ان واحد، وعلى راسها تأسيس حزبها الثوري المستند على الماركسية، واعتماد جريدة مركزية تكون لسان حال الحزب، لكي يوحد خطابه وان يدرس المتغيرات المتواصلة على الواقع، ويبتعد تماما عن الصيغ الجاهزة في التحليل والتي تعتمد أساسا على الاستنساخ، وان يكون النقد، نقد الواقع، هو المعين والنبع الدائم الذي لا ينضب. وتطبيق الماركسية على ضوء الواقع المتحرك. والاعتراف بالاخطاء دون أي شعور بالنقص ووضع البدائل باعتماد التحليل الصحيح والحلول الصحيحة، وخصوصا تحديد الحلفاء من جهة والاعداء الطبقيين من جهة أخرى.